للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وظل ذلك بقصور الخلفاء فى العهد الأخير من الدولة العباسية كما مر بنا آنفا. ولا شك فى أن شيئا كثيرا من التدهور أصاب بغداد بعد الغزو المغولى، إذ أصبحت مع ما يتبعها من العراق ولاية ضمن ولايات متعددة يدبّر شئونها الإيلخانيون ثم التيموريون ومن جاء بعدهم. ومعروف أن الإيلخانيين لم يتخذوا بغداد عاصمة لهم، بل كانت عاصمتهم تبريز ومدينة بنوها سموها السلطانية، وعاد حقا إلى بغداد شئ من النشاط فى عهد الشيخ حسن الكبير وأبنائه، بل قبل ذلك فى عهد بوسعيد، ولكن على كل حال لم يعد لها مجدها القديم، بل سرعان ما تردت فى هوة من فساد الحكم. وغزاها تيمور لنك وتولاها بعده أحمد بن أويس ثم قرا يوسف وأبناؤه ثم أوزون حسن كما أسلفنا، وأصبحت إحدى الولايات فى الدولتين الصفوية والعثمانية. وإذا كان ابن جبير زارها سنة ٥٨٠ وقال إنه ذهب أكثر رسمها ولم يبق منها إلا شهير اسمها وإنها أصبحت كالطلل الدارس والأثر الطامس (١) فإن ابن بطوطة حين زارها سنة ٧٢٨ فى عهد بوسعيد الإيلخانى أعاد إلى الأذهان كلام ابن جبير، وعلق عليه بقول أبى تمام. قائلا كأنه اطلع على ما آل إليه أمرها حين قال فيها:

لقد أقام على بغداد ناعيها ... فليبكها لخراب الدّهر باكيها (٢)

وبدون شك كانت حيوية بغداد أقوى من الخراب الذى أصابها مع غزو هولاكو ومع خروج صولجان الحكم منها فقد ظلت لها مسحة غير قليلة من عراقتها، وظلت منزلا للعلم والعلماء، بفضل ما كان يجبيه حكامها من حوض دجلة والفرات وما به من أشجار وزروع وثمار. وإذا كنا قد رأينا الخلفاء والحكام وحواشيهم يتنفسون حياة مترفة، فقد كان يتنفسها معهم الأشراف وكبار الموظفين والإقطاعيون والوزراء. وكان الأخيرون خاصة يدبرون شئون الدولة وتصير إليهم أموالها، فأثرى منهم كثير ثراء فاحشا، وغرقوا فى الترف والنعيم. ويلقانا فى أول العصر المهلبى وزير البويهيين، وكان يشتهر بمآدبه وكثرة ما كان يقدّم فيها من أصناف الطعّام والحلوى، وقالوا إنه كان «إذا أراد أن يأكل شيئا بمعلقة كالأرز واللبن وقف من جانبه الأيمن غلام معه نحو ثلاثين ملعقة زجاجا مجرودا، فيأخذ منه ملعقة يأكل بها من ذلك اللون لقمة واحدة، ثم يدفعها إلى غلام آخر قام من الجانب الأيسر، ثم يأخذ أخرى فيفعل بها فعل الأولى، حتى ينال الكفاية، لئلا يعيد الملعقة إلى فيه دفعة


(١) رحلة ابن جبير (طبعة ليدن) ص ٢١٧.
(٢) رحلة ابن بطوطة (طبع المطبعة الأزهرية) ١/ ١٣٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>