للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أبو العباس عبد الله بن محمد، وكان قد ظل سبعين سنة ناسكا عابدا لايستند إلى حائط ولا إلى وسادة أو غيرها. وكانوا يكرهون فى الزاهد أن يتولى عملا للسلطان يكسب منه مالا (١)، وكانوا إذا عرفوا أن طعام شخص من مال أخذه من السلطان امتنعوا من أكله (٢). وكانت موجة الزهد عامة فكثيرا ما نقرأ عن هذا الخليفة أو ذاك أنه كان زاهدا، وبذلك اشتهر الخلفاء القادر والمسترشد والقائم، ويقال عن الأخير إنه كان فى وجهه أثر صفرة من قيام الليل (٣). وكان من الوزراء وأبنائهم من يرجعون إلى أنفسهم فينصرفون عن الدنيا ومتاعها الزائل إلى عبادة الله وما عنده من الثواب الآجل، ويروى عن سليمان بن الوزير نظام الملك، وكان يتولى المدرسة النظامية التى بناها أبوه ببغداد، كما مر بنا، أنه كان يحضر مواعظ ابن الجوزى واعظ بغداد المشهور، فأخذه الوجد يوما. فقام وأشهد ابن الجوزى والناس من حوله أنه قد أعتق جميع ما يملك من الرقيق، ووقف ما يملك على أعمال البر (٤). ويبدو أن كثيرين كانوا يبالغون فى الزهد، حتى ليفرضون على أنفسهم العبادة ليل نهار، بل حتى لينصرفون عن الحياة الزوجية ويمتنعون منها. وكل ذلك مغالاة فى الزهد لا يرضاها الإسلام، الذى لا يريد للزاهد أن ينفصل عن المجتمع والحياة، وقد روى أن جماعة من الصحابة كانوا فى سفر أثنوا للرسول عليه السلام على رفيق لهم كان لا يزال داعيا ربه فى ركوبه مصليا له فى نزوله فقال لهم «فمن كان يكفيه علف بعيره وإصلاح طعامه؟ قالوا: كلنا، قال: فكلكم خير منه (٥)». فالزهد الإسلامى ينكر إهمال الشخص لشئونه الدنيوية، كما ينكر بقوة فكرة العزوبة المعروفة عند رهبان النصارى (٦). ونرى ابن الجوزى يحمل حملة شعواء على الزهاد الذين يمتنعون عن الزواج ونظرائهم الذين يمضون الليل والنهار فى العبادة والنسك وقد نحلت أجسامهم وشحبت ألوانهم ودقت عظامهم، حتى إنهم لا يستطيعون الصلاة واقفين، بل يصلون من قعود.

ويقول إن هذا كله مخالف للشريعة والسنة (٧).


(١) النجوم الزاهرة ٥/ ١١٧.
(٢) النجوم ٥/ ٥٧.
(٣) النجوم ٥/ ٩٨.
(٤) الحوادث الجامعة والتجارب النافعة فى المائة السابعة (طبع بغداد) ص ١٢٤ وانظر تاريخ العراق فى العصر العباسى الأخير لبدرى فهد ص ٣٩٧.
(٥) أعلام النبوة للماوردى (طبع القاهرة) ص ١٥٣ وراجع طبقات ابن سعد ج ٣ ق ١ ص ٢٨٧ وج ٤ ق ٢ ص ٩.
(٦) انظر عيون الأخبار لابن قتيبة (طبع دار الكتب المصرية) ٤/ ١٨ وروض الرياحين لليافعى (طبع القاهرة) ص ٣٨.
(٧) صيد الخاطر لابن الجوزى (طبع القاهرة) ص ١٣٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>