للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان طبيعيّا أن يتحوّل كثير من الزهاد إلى متصوفة، لا يكتفون بالإعراض عن ملاذ الدنيا وطيباتها قانعين من الطعام بالكسرة ومن الثياب بالخرقة، لا يشغلهم مال ولا زوجات ولا أولاد. وقد أخذت تبنى لهم الرّباطات والخانقاهات فى العالم الإسلامى، تبنيها الدولة أحيانا، ويبنيها ذوو اليسار ابتغاء وجه الله أحيانا أخرى. وكان ما بها من طعام يأتى عن طريق الصدقات أو عن طريق ما يحبس عليها من الأوقاف، ولم يكن يسمح بالأكل من هذا الطعام إلا للعابد الناسك نسكا لا يستطيع معه كسب قوته أو إلا إذا أصبح من الشيخوخة بحيث تقعده عن العمل، وبذلك لم يكن يؤذن لعاطل بالأكل من هذا الطعام. وكان فى الأربطة والخانقاهات مجاميع من الشيوخ والشباب أصحاب الخلوة. وعادة كان لكل رباط شيخ كبير يصبح كل من فيه من أتباعه. والمحور الأساسى للتصوف هو محبة الله محبة يفنى فيها الصوفى المحبّ فى الحقيقة المطلقة حقيقة الكائن الإلهى، وقد أخذ يتداخل غلو كثير فى هذه العقيدة، ومرّ بنا فى كتاب العصر العباسى الثانى أنه بلغ من غلو الحلاّج فى هذه العقيدة أن جرى على لسانه كلمات وأشعار كثيرة تصرّح بفكرة الحلول من مثل قوله: «أنا الله وأنا الحق» مما جعل الفقهاء يفتون بزندقته وقتله. غير أن هذا الغلو لم يمت بموت الحلاج، بل لقد رافقه غلو آخر عند بعض الصوفية لعله أكثر عنتا إذ ذهب فريق منهم إلى أنه ينبغى أن يظهروا للناس أنهم لا يعملون بشرائع الإسلام وإن كانوا يعملون بها فعلا، وهم المسمون بالملامتيّة أى المستحقين للوم، مبتغين من ذلك أن يكونوا محل احتقار وازدراء حتى يبلغوا مرتبة عليا من التصوف والانصراف عن الدنيا.

وكثير من الصوفية أخذوا يعلنون أنه لا عبرة بأداء الفرائض الدينية أو كما يسمونها عمل الجوارح، إنما العبرة بعمل القلب. وكل هذا انحراف بالتصوف عن منهجه الصحيح.

وكان ذلك سببا فى أن تنشأ حرب عاصفة منذ أوائل هذا العصر بين الفقهاء من جانب والمتصوفة من جانب آخر، فكان الفقهاء يرونهم خارجين على الإسلام بما يشيعون من أفكار الحلول وما يتصل بها وبما يأخذ بعضهم به أنفسهم من القعود عن أداء فرائض الإسلام، قاطعين بذلك كل سبب بينهم وبين دينهم الحنيف. وتفاقمت الحرب بين الطرفين بحيث أصبحت هناك ضرورة أن يوجد بعض المتصوفة المصلحين الذين يعيدون الأمر إلى نصابه، حتى لا يخرج التصوف عن حدود الشريعة. وسرعان ما ظهر أبو نصر السرّاج الصوفى الطوسى المتوفى سنة ٣٧٨ وألف كتابه «اللمع» وفيه ينكر على الصوفية كل انحراف فلسفى وشطح صوفى يؤدى إلى نظرية الحلول، كما ينكر تعطيل الفرائض الدينية ويجعلها جزءا لا يتجزأ من التصوف، فبدونها لا يتحقق له وجود. وحمل أفكاره تلميذه أبو عبد

<<  <  ج: ص:  >  >>