للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بآلاف الكتب، مما يدل بقوة على النهضة العلمية فى هذا العصر.

وكان من آثار هذه النهضة أن كثر عدد العلماء فى كل علم وفن كثرة مفرطة، أهّلت فيما بعد لتأليف كتب فى تراجم كل مجموعة على حدة، فكتب للفقهاء وكتب للمفسرين وكتب للقراء وكتب للنحاة وكتب للأطباء إلى غير ذلك من الأصناف. ووضعت كتب عامة مثل معجم الأدباء ووفيات الأعيان لابن خلكان. ويخيل إلى الإنسان أنه لم يكن شخص فى بغداد-مددا متطاولة من هذا العصر الذى امتدّ قرونا متعاقبة-إلا وهو يلمّ بعلم أو بطائفة من العلوم. وكان هناك كثيرون يشبهون الصحفيين فى عصرنا، فهم يستطيعون أن يتحدثوا فى كل موضوع ويناقشوا كل فكرة، وهيأ ذلك لندوات كثيرة كانت تعقد أحيانا فى قصور السلاطين والوزراء وعلية القوم، وكثيرا ما دارت فى هذه الندوات مناظرات خصبة، على نحو ما نسمع عن مجلس عز الدولة بختيار وما أثير فيه من مناظرات فى مسائل كلامية أو تتصل ببعض قراءات الذكر الحكيم (١). ولعل مجلسا لم تحتدم فيه المناظرات كما احتدمت فى مجلس الوزير ابن سعدان المتوفى سنة ٣٧٥ وقد قصّ علينا منها أطرافا كثيرة أبو حيان فى كتابه «الإمتاع والمؤانسة» وكان هذا المجلس يضم بعض الشعراء وبعض المتفلسفة وبعض المترجمين وبعض المهندسين وبعض الأخلاقيين وبعض إخوان الصفا وبعض الكتاب والأدباء. كان مجلسا حافلا، وكانت تعرض فيه كل جوانب الثقافة من لغة وشعر وإلهيات وأفكار فلسفية وخلقية، ويتحاور هؤلاء المفكرون فى كل ذلك محاورات بديعة.

وكانت تثار مناظرات كثيرة فى المساجد بين الفقهاء بعضهم وبعض، وكذلك بين المتكلمين واللغويين. وبلغ من اتساع المناظرات حينئذ أنهم نقلوها أحيانا إلى الأسواق، فأبو حيان يعرض مناظرة طويلة ثارت فى سوق الوراقين بين طائفة من المفكرين المتفلسفين وبين أحد إخوان الصفا المسمى المقدسى، وكان موضوعها ما يزعمه المقدسى وزملاؤه من الصلة بين الفلسفة والدين (٢). ومن الندوات المشهورة فى القرن الرابع ندوة أبى سليمان المنطقى السجستانى صاحب صوان الحكمة المتوفى بعد سنة تسعين وثلاثمائة وهو من تلامذة الفارابى وامتاز بعقل خصب نادر، وقد سجل أبو حيان فى كتابه «المقابسات» كثيرا مما كان يدور فى ندوته من شعب الفكر فى الإلهيات والطبيعيات والنفس والروح والأخلاق.

ونذهل حين نقرأ الحوار فى المسائل الكثيرة التى كانت تدار فى هذه الندوة وكذلك فى ندوة ابن سعدان، وكأننا بإزاء مصانع مستحدثة كانت تصنع الأفكار المتفلسفة صناعة غريبة


(١) مثالب الوزيرين لأبى حيان التوحيدى (طبع دمشق) ص ١٣٩.
(٢) الإمتاع والمؤانسة ٢/ ٣ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>