للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعلى هذا النحو لم يكن العلم فى بغداد احتكارا لطبقة بعينها، بل كان مباحا لجميع الناس، ويخيّل إلى الإنسان كأنما كان كل أهل بغداد على حظ من العلم والثقافة قليل أو كثير، ومن خير ما يصور ذلك قصة المزين الثرثار الطريفة فى كتاب ألف ليلة وليلة، فقد ذكر فيها أنه قال لشاب بغدادى فى تضاعيف حديث وجّهه إليه: «قد منّ الله عليك بمزين منجم عالم بصناعة الكيمياء والسيمياء والنحو والصرف واللغة وعلم المعانى والبيان وعلم المنطق والحساب والهيئة والهندسة والفقه والحديث والتفسير. . وقد قرأت الكتب ودرستها ومارست الأمور وعرفتها، وحفظت العلوم وأتقنتها، وعلمت الصنعة (الكيمياء) وأحكمتها، ودبّرت جميع الأشياء وركبتها». ولم تكن العامة من الرجال فقط هى التى تحسن هذه الثقافة وحدها، فقد كانت تحسنها أيضا الجوارى على نحو ما تصور ذلك قصة الجارية تودد فى ألف ليلة وليلة وفيها تناظر جلّة العلماء فى مختلف العلوم والفنون وتظهر براعة فائقة فى ليال كثيرة ما تزال فيها تحاور محاورات علمية بديعة. وكانت النساء تحضر مع الرجال مجالس العلماء، وتحمل عنهم كثيرا من كتب الحديث، وعنهن يحملها كثير من الحفاظ المشهورين، على نحو ما هو معروف عن الخطيب البغدادى وحمله أو أخذه صحيح البخارى عن كريمة المروزية (١).

وطبيعى أن تنشط الوراقة فى هذا العصر الذى كان مكتظا بالعلوم والفنون من كل صنف وعلى كل لون، وقد بلغ من ازدهار نسخ الكتب والأجور التى كانت تدفع للناسخ أن وجدنا بعض كبار العلماء والأدباء يتخذه وسيلة لعيشه هو وأسرته، مثل يحيى بن عدى المتفلسف المتوفى سنة ٣٦٤ ويروى عنه أنه كتب بخطه نسختين من تفسير الطبرى (٢)، ومثل أبى حيان التوحيدى أكبر أدباء عصره، فقد اشتهر بنسخ الكتب ودقته فى هذا النسخ، مما جعل الصاحب بن عباد يستخدمه لنفس الغاية (٣). وكان للوراقين سوق معروفة فى بغداد تباع فيها الكتب، وكانوا يقومون فى هذا العصر مقام أصحاب المطابع فى عصرنا، إذ كانوا ينسخون الكتب أو يكلفون من ينسخها ويصححها ويجلدها، وكانت من الكثرة بحيث يصعب إحصاؤها والوقوف عليها فى كل فن. ومع ذلك فقد اضطلع ابن النديم المتوفى سنة ٣٨٥ بهذا العمل الخطير فى كتابه «الفهرست» وقد وزع فيه الكتب على جميع أنواع العلوم والفنون مترجما لأصحابها، ولم يترك كتابا إلا ذكره، وأفرد لكتب الفرس والهند واليونان صحفا كثيرة. والكتاب طرفة من أروع الطرف، وهو يموج


(١) السبكى ٤/ ٣٠.
(٢) تاريخ الحكماء للقفطى (طبعة ليبزج) ص ٣٦١.
(٣) معجم الأدباء ١٥/ ٢٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>