ما أصنع؟ هكذا جرى المقدور ... الجبر لغيرى وأنا المكسور
مأسور هوى متيّم مهجور ... هل يمكن أن يغيّر المسطور
والرباعية تفيض بيأس محب مهجور، يقول ما أصنع والحجاب يقوم بينى وبين محبوبى، هكذا جرى القلم ولا يسعه إلا أن يمتثل ويذعن، وإنه ليأسى أسى عميقا لنفسه، فغيره يجبر ويوصل وهو يحرم ويبعد ويكسر كزجاج مصدوع لا يشعب، وإنه لأسير هذا الهوى الذى يبرّح به والذى يتعثّر فى شباكه، قدر أزلى كتب عليه، لا مفرّ منه ولا مهرب. وابن الجوزى توفّى سنة ٥٩٧ وتوفى العماد فى نفس السنة، وفى كثرة إنشادهما للرباعيات ما يدل على أنها قد شاعت فى عصرهما وانتشرت انتشارا واسعا. وهى تلقانا عند الحاجرى وغيره من شعراء القرن السابع. ويقول مالك بن المرحلّ إنها تستعذب فى الغناء، وأكبر الظن أنها لم تكن تستعذب فى الغناء فحسب بل كانت تستعذب أيضا فى أناشيد المتصوفة بحلقات الذكر، وقد جمع كامل الشيبى طائفة كبيرة منها على مر العصور ونشرها باسم ديوان الدوبيت.
وأخذ يعم منذ أوائل هذا العصر مذهب التصنع والتعقيد الذى صورناه بالتفصيل فى كتابنا «الفن ومذاهبه فى الشعر العربى» وقد أوضحنا كيف أن المحسنات البديعية فى مذهب التصنيع والتنميق السابق له كأنما أخذت تزايلها أو تفارقها بعض أصباغها عند العراقيين وغيرهم من شعراء العصر، ومثلنا لذلك باستخدام المتنبى للطباق والاستعارة واستخدام غيره للجناس. وقد أولع الشعراء فى هذا العصر باللون الأخير، وأخذوا يطلبون فيه صعوبات مختلفة، ومن أخف صورها قول أبى الجوائز الواسطى (١) المتوفى سنة ٤٦٢:
وا حزنى من قولها ... خان عهودى ولها
وحقّ من صيّرنى ... وقفا عليها ولها
ما خطرت بخاطرى ... إلا كستنى ولها
ولها فى نهاية البيت الأول من اللهو، وقد جانس بينها وبين الجار والمجرور فى نهاية البيت الثانى ثم جانس بينهما وبين كلمة «وله» أى شدة الوجد فى نهاية البيت الثالث.
وقد يقبل هذا الجناس المعقد فى تلك الأبيات لخفته، غير أننا لا نكاد نمضى بعد
(١) انظر فى أبى الجوائز ابن خلكان ٢/ ١١١ وتاريخ بغداد ٧/ ٣٩٣ والدمية ١/ ٣٤٢ والخريدة ٤/ ١/٣٤٣ والمنتظم ٨/ ٢٥٨ وميزان الاعتدال ١/ ٢٣٨.