للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حاجة إلى التعقيد فى الشعر وتصعيب ممراته التى يسلكها الشاعر إلى صناعته.

وإذا رجعنا إلى البديعيات من بديعية صفى الدين الحلى وجدنا الشعراء دائما يعقّدون فيها، وقد يضيفون ألوانا جديدة ولكن ينقصها الحسن والرونق والبهاء. وقد أكثروا من الاقتباس، وحسن أن يقتبس الشاعر بعض ألفاظ القرآن الكريم والحديث الشريف فإنها تلذ النفس، غير أن الشعراء أكثروا من اقتباس أشعار الأسلاف يضمنونها قصائدهم، مما يعطل الحركة الوجدانية فى أشعارهم، وبلغ من تكلفهم فى هذا اللون أن نجد شاعرا يسمى الشيخ أحمد النجفى الحلّىّ المتوفى سنة ١١٨٣ هـ‍/١٧٦٩ م يضمن إحدى مدائحه شطورا من ألفية ابن مالك المشهورة فى النحو، فله شطر ولابن مالك شطر (١).

ودفع المتنبى الشعراء منذ أوائل هذا العصر إلى التصنع للثقافات المختلفة، وقد أوضحنا ذلك فى كتابنا «الفن ومذاهبه فى الشعر العربى» فصورنا تصنعه لبعض مصطلحات التصوف وسمات العبارة الصوفية وللأفكار والصيغ الفلسفية ولألفاظ اللغة الغريبة وبعض اشتقاقاتها النادرة وأساليبها النحوية الكوفية الشاذة. وتبعه أبو العلاء يكثر فى لزومياته من التصنع لألفاظ العلوم اللغوية والإسلامية. ومضى الشعراء فى العراق وغير العراق بعد الشاعرين الكبيرين يلتمسون أحيانا التجديد فى الأساليب بما يطوى فيها من مصطلحات علمية. وكل ذلك كان تعقيدا وقيودا، حتى يصعّب الشعراء عملهم، وحتى يظهروا مهارتهم فى السلوك إليه من أضيق الممرات والدروب.

وأخذت تظهر سريعا صور من التمارين الهندسية فى الشعر، وكأن الشاعرية لم تعد تقاس بالأثر الوجدانى الذى يحدثه الكلام فى نفوس الناس، بل غدت تقاس بما يمكن أن يستحدثه الشاعر من عقد، وربما كان الحريرى أهم من فتح هذه الأبواب، إذ نراه فى مقاماته لا يزال يغرب بأفانين لفظية كثيرة، فمن ذلك أن تقرأ الأبيات طردا وعكسا كما جاء فى المقامة المغربية من مثل قوله:

اسل جناب غاشم ... مشاغب إن جلسا

فإن البيت يقرأ من آخره كما يقرأ من أوله دون أى اختلاف فى لفظ أو حرف، ومن الغريب أن من جاءوا ابعده جعلوا ذلك لونا من المحسنات البديعية وسموه «ما لا يستحيل بالانعكاس». وتمرين هندسى ثان عرضه فى المقامة الشعرية، وهى أبيات التزم فى داخلها قافية غير قافيتها الخارجية على هذه الصورة:

يا خاطب الدنيا الدنيّة إنها ... شرك الرّدى وقرارة الأكدار


(١) عباس العزاوى ٢/ ٢٧٣

<<  <  ج: ص:  >  >>