للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد بدأ موشحته بالقفل وتلاه بالدور، ثم تتابعت الأقفال والأدوار، وكان يعرف كيف ينتخب كلماته عذبة رشيقة، كما كان يعرف أنه لكى تتكامل رشاقة الموشح يحسن أن تكون الشطور فى الأدوار قصيرة وأن يسرى فيها صفاء موسيقى بديع. وأنشد له ابن تغرى بردى موشحة يعارض بها موشحة مظّفر الأعمى المصرى:

كلّلى يا سحب تيجان الرّبى بالحلى

وظن بعض الأسلاف أن هذا الموشح لابن سناء الملك، لروعة موسيقاه، وهو ظن مخطئ وكان مظفر يعاصره تقريبا، فقد توفى بعده بنحو خمس عشرة سنة. وتمضى موشحة الموصلى فى هذه الصورة:

جلّلى ... يا راح كأسى ولها كلّلى

بالحلى ... سوارها ثم لها خلخلى

من غرر ... حبابك المنظوم مثل الدّرّ

بالخمر ... كأنه الياقوت فوق الجمر

والزّهر ... فى الرّوض أمثال النجوم الزّهر

ومهارته واضحة فى انتخاب الألفاظ والملاءمة بينها فى الجرس والنغمة، وبحق يصف ابن تغرى بردى موشحاته بأنها بديعة وأنها ذات نظم رائق. ويقول إن له موشحات كثيرة. وربما كان أهم الوشاحين العراقيين بعده صفى الدين الحلى، ونلتقى فى ديوانه باثنتى عشرة موشحة منها ست فى مديح الملوك والأمراء وخمس فى الغزل وموشحة صوفية. ومع أنه أجمل صوت يلقانا بعد القرن السابع فإنه يهبط فى موشحاته درجة أو درجات عن الموصلى وربما كان أخف مطلع لموشحاته قوله فى فاتحة موشحة عارض بها أبا بكر بن بقى الأندلسى المشهور فى موشحة بديعة له:

صاحب السيف الصقيل المحلّى ... جرّد اللّحظ وألق السّلاحا

لك يا ربّ العيون ... القواتل

ما كفى عن حمل سيف ... وذابل (١)

أعين تبدو لديها ... المقاتل

ما سرى فى جفنها الحسن إلا ... أوثقت منا قلوبا جراحا

وربما كانت المعارضة هى التى جعلته يتفوق فى هذه المرشحة، كما جعلته يصفّى لفظه تصفية، شديدة بحيث أصبح يشبه الماء العذب السلسبيل، وخاصة فى هذا المطلع البديع.


(١) الذابل: الرمح

<<  <  ج: ص:  >  >>