للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

«عبدان». ولم يعر ابن خلكان هذه الدعوى اهتماما، وهى دعوى ملفقة كيدا للشاعر الفذّ وحسدا. وكل شئ فى سيرة الشاعر يؤكد بطلانها، فقد ذكروا أن أباه ألحقه بكتّاب أبناء الأشراف، ويبعد أن ينتظم فى سلك هؤلاء الأبناء وأبوه سقّاء يحمل الماء لأهل الحى القاطن به. وقد تفتحت موهبته الشعرية مبكّرة، وهو فى نحو الثامنة من عمره، واتفق أن قال له بعض رفاقه من الصّبية: ما أحسن وفرتك وشعرك، وفوجئ الصّبىّ بردّه:

لا تحسن الوفرة حتى ترى ... منشورة الضّفرين يوم القتال

على فتى معتقل صعدة ... يعلّها من كل وافى السّبال

فالوفرة-أو الشعر المجتمع على الرأس-لايحسن منظره إلا يوم القتال حين تشعّث ذوائبه على رأس فتى باسل يعتقل صعدة أو رمحا يعلّها أو يرويها من دماء الرجال، فتى لا يبرح ميادين النضال والقتال. وفى ذلك ما يدل على أنه كان يستشعر منذ نعومة أظفاره نفسا كبيرة بين جنبيه، نفسا ستعيش للفتوة والإقدام، ولن يجذبها أى جمال حسى أو متاع مادى فى الحياة، مما جعله ينصرف عن الخمر بل ينهى عن احتسائها، أما ما قيل من حبه للعبة الشطرنج فلأنها تمثل مواقع الحرب والعراك. وما يكاد الفتى يبلغ التاسعة من عمره، حتى يغزو القرامطة الكوفة ويسفكوا الدماء ويسبوا النساء، ويفرّ الناس منها جزعا وفزعا، ويفر به أبوه إلى بادية السماوة بين العراق والشام ويظل المتنبى نحو عامين أو ثلاثة يتردد فى القبائل ويتغذّى بلغتها، وتتغذّى فتوته الجاثمة بين ضلوعه. ويعود إلى الكوفة فى مستهل سنته الثانية عشرة، ولا ندرى هل كان أبوه لايزال حيا أو أنه توفّى قبيل عودته أو بعد عودته بقليل، ونظن ظنا أن أمه فارقت الحياة قبل أبيه، بل لعلها فارقتها وهو لا يزال رضيعا. وإنما يحملنا على ذلك أننا لا نجد لأمه ولا لأبيه ذكرا فى ديوانه، بينما نجده يرثى جدته وهو فى نحو الثلاثين من عمره رثاء حارا قائلا:

ولو لم تكونى بنت أكرم والد ... لكان أباك الضّخم كونك لى أمّا

وفى تسميته لها بأنها أمه ما قد يشهد بوفاة أمه فى باكورة حياته وأن جدته هى التى قامت على تربيته. وحاول بعض المعاصرين أن يلقى شيئا من ظلال الشك على نسبه، لأنه لم يذكر فى شعره أباه ولا أمه مما قد يؤكد أنه كان يشعر بشعور الضعة من ناحية أسرته وأهله الأدنين، وجعله ذلك يبغض الناس. والنتيجة ومقدمتها غير صحيحتين، فإن كثيرا من شعراء العرب لم يذكروا فى أشعارهم آباءهم ولا أمهاتهم، وليس فى ذلك أى دليل على

<<  <  ج: ص:  >  >>