للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأروع مدائحه فى عضد الدولة هائيته، وهو يستهلها بتصوير حنينه إلى منازل حبيباته العربيات فى الشام، وتطغى عليه حرارة هذا الحنين وما يلبث أن يجسّمه فى فتاة عربية شامية خلبت لبه، ويصور جمالها وعفتها بمثل قوله:

كلّ جريح ترجى سلامته ... إلا فؤادا دهته عيناها

فى بلد تضرب الحجال به ... على حسان ولسن أشباها

فيهنّ من تقطر السيوف دما ... إذا لسان المحبّ سمّاها

إنهن عربيات دونهن الموت الزّؤام. وعلى هذا النحو ظلت العروبة تختلط بدمائه، حتى أنفاسه الأخيرة فقد بارح شيراز سريعا، وفى طريقه بالقرب من بغداد خرج عليه فى أواخر شهر رمضان من سنة ٣٥٤ فاتك بن أبى جهل فى بعض الشذاذ من قطاع الطرق، وصرعه هو وابنه وغلمانه، وبذلك أحال أعراس الشعر مآتم على شاعر العروبة العبقرى: مآتم حداد وسواد. وقد بكاه كثير من معاصريه بكاء حارا.

ولعل فيما قدمنا ما يصور الموضوعات الاساسية التى تغنى بها المتنبى، وهى المديح والهجاء والفخر والرثاء، وأروع مدائحه كما قدمنا ما نظمه فى سيف الدولة وتصوير معاركه، وهجاؤه ينبثّ فى مدائحه ونقصد هجاءه لأعاجم بغداد، وفيهم يقول:

فى كل أرض وطئتها أمم ... ترعى بعبد كأنهم غنم

يستخشن الخزّ حين يلبسه ... وكان يبرى بظفره القلم

والبيت الثانى يحمل سخرية قاتلة فقد كانوا-كما يقول-عبيدا غلاظا لا يعرفون إلا الملابس الخشنة، وقد طالت أظفارهم، وإذا هم يعيشون فى النعيم، يلبسون الإستبرق بل يستخشنونه، ويملئون ديار العرب بغيا وظلما، ومرت بنا أبيات أخرى فى هجائهم، وأشرنا إلى هجائه لكافور وهو هجاء مرير. ويكثر الفخر فى شعر المتنبى، وهو طبيعى لمن يتصف بالبأس والشجاعة واحتمال المكاره والطموح والثقة بالنفس ثقة تدفعه إلى مغالبة الزمن حتى ليقول:

أمثلى تأخذ النكبات منه ... ويجزع من ملاقاة الحمام

ولو برز الزمان إلىّ شخصا ... لخضّب شعر مفرقه حسامى

وفى ديوانه مراث مختلفة، ولكن أهمها مرثيته فى جدته والأخرى التى نظمها فى أم سيف الدولة، وقد مرت الإشارة إليهما، والمرثية الأولى تطفح بالفخر بينما تطفح الثانية بالتفكير فى الحياة والموت، وفيها يقول:

يدفّن بعضنا بعضا وتمشى ... أواخرنا على هام الأوالى

<<  <  ج: ص:  >  >>