للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يتجاوز العشرين من عمره حتى تعاظمت الحزازات والثارات بين عشيرته أو أسرته وبعض الأسر أو العشائر فى الحلّة، وقتل خاله، وبكاه فى غير قصيدة وأخذ يدعو للثأر له، فنشبت معارك وسفكت دماء، وهاله أن يرى ذلك تحت بصره، فلم تدخل سنة سبعمائة حتى خرج عن الحلّة، ولم يكتف بالبعد عنها فى بغداد، فقد أبعد فى ارتحاله حتى نزل عند ملوك ماردين فى الموصل من آل أرتق أصحابها وأحسن لقاءه واستقباله ملكها المنصور نجم الدين غازى بن أرتق، وهو يشيد به وبعطاياه وعطايا ابنه الملك الصالح فى مقدمته للديوان، وفى استقبال المنصور له يقول:

لاقيتنا ملقى الكريم لضيفه ... وضممتنا ضمّ الكمىّ لسيفه

وقد أنزله فى دار فخمة نوّه بها فى شعره، وظل يصحبه فى حلّه وترحاله ونزهاته، وفيه نظم مدائح كثيرة فى الأعياد وفى بعض انتصاراته. ولم يكتف بذلك فقد رأى أن ينظم فيه ديوانا مستقلا سماه «درر النّحور فى مدائح الملك المنصور» وهو ملحق بديوانه المطبوع فى دمشق، ويحتوى على تسع وعشرين قصيدة اشترط فيها على نفسه أن تكون كل قصيدة منها على حرف من حروف المعجم التسعة والعشرين، وأن يكون عدد أبيات كل منها تسعة وعشرين، وأن يبدأ فى كل بيت منها، ويختتمه بنفس الحرف، وفى إحداها يقول:

ربّ النّوال ومحمود الخصال ومق‍ ... دام النّزال وأمن الخائف الحذر

راعى الأنام بعين غير راقدة ... قد وكّلت فى أمور الملك بالسّهر

راض مع السخط يبدى عزم منتقم ... للمذنبين ويعفو عفو مقتدر

راحاته مذ نشا فى الملك قد عاهدت ... يوم النّدى والرّدى بالنفع والضّرر

ولا ريب فى أن هذا الصنيع ضرب من التكلف الشديد، ولذلك حين نقرأ قصائد هذا الديوان نشعر كأننا بإزاء لون من الشعر التعليمى الذى يراد به إظهار المهارة اللغوية.

ويتوفّى الملك المنصور سنة ٧١٢ ويخلفه ابنه الملك الصالح وتظل له منزلته، ويظل له راتبه الذى كان يأخذه فى عهد أبيه، ويصحبه فى نزهاته وخروجه للصيد، ويتخذه أنيسا له فى مجالس شرابه. ونراه فى أواخر العقد الثانى من هذا القرن الثامن وقد مرّ به نحو عشرين عاما فى ظلال الدولة الأرتقية يفكر فى زيارة الشام بحجة رغبته فى التجارة، وكانت تجارته الدارّة شعره، فنزل بحماة ومدح سلطانها المؤيد وابنه الأفضل، وفى أثناء مقامه عندهما يرسل بمدائحه إلى الملك الصالح، ويفكر فى قضاء فريضة الحج، ويحج إلى بيت الله الحرم فى سنة ٧٢٣ ويزور قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ويفكر فى العودة ولا يعود إلى الموصل ولا إلى الشام ولا إلى بغداد، إذ يتجه إلى القاهرة وينزل بساحة سلطانها الناصر محمد بن قلاوون،

<<  <  ج: ص:  >  >>