ويستقبله أدباء مصر استقبالا حافلا، ويمدح الناصر بقصيدتين، ربما كانا أروع مدائحه جميعا، أما أولاهما فعارض بها قصيدة المتنبى:
بأبى الشموس الجانحات غواربا ... اللابسات من الحرير جلاببا
واختياره لمعارضة المتنبى شاعر العربية الفذ دليل قوى على ثقته بنفسه، وقد أظهر فى معارضته براعة فائقة، وهو يستهل معارضته بقوله:
أسبلن من فوق النّهود ذوائبا ... فجعلن حبّات القلوب ذوائبا
والجناس فى كلمتى ذوائب بديع، فالأولى بمعنى الضفائر، والثانية من الذوبان، والجناس كثير فى شعره، وكان يعرف بمقدرته الشعرية كيف يجعله سائغا. ويمضى فى مديح الناصر قائلا:
الناصر الملك الذى خضعت له ... صيد الملوك مشارقا ومغاربا
لم تخل أرض من ثناه وإن خلت ... من ذكره ملئت قنا وقواضبا
ترجى مواهبه ويرهب بطشه ... مثل الزمان مسالما ومحاربا
فإذا سطا ملأ القلوب مهابة ... وإذا سخا ملأ العيون مواهبا
ولم يفتتح القصيدة الثانية بالنسيب أو الغزل. وكأنما سحر الطبيعة المصرية وجمال رياضها وبساتينها ملأ عينيه وقلبه، فرأى أن يعدل عن النسيب إلى وصف الجمال الهاجع على ضفاف النيل وجداوله من مثل قوله:
خلع الربيع على غصون البان ... حللا فواضلها على الكثبان
والظّلّ يسرق فى الخمائل خطوه ... والغصن يخطر خطرة النّشوان
وكأنما الأغصان سوق رواقص ... قد قيّدت بسلاسل الرّيحان
والشمس تنظر من خلال فروعها ... نحو الحدائق نظرة الغيران
والطّلع فى خلل الكمام كأنّه ... حلل تفتّق عن نحور غوانى
وصفىّ الدين يحيل الطبيعة المصرية نشوى بما يتراءى له فيها من غناء ورقص وغوان وجمال فاتن يأخذ بالألباب. ويمضى محفوفا بهذا الجمال من كل جانب، مادحا للناصر محمد بن قلاوون بمثل قوله:
ملك إذا اكتحل الملوك بنوره ... خرّوا لهيبته إلى الأذقان
شاهدته فشهدت لقمان الحجى ... ونظرت كسرى العدل فى الإيوان
وافى وقد عاد السماح وأهله ... موتى فكان له المسيح الثانى
لا عيب فى نعماه إلا أنّها ... يسلو الغريب بها عن الأوطان