للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فتحت عينى فإذا الدولة ال‍ ... دولة والشيخ الوزير الوزير

والهردب: العجوز الغليظ، يريد أنه لا يستطيع حراكا فكيف يحرك دواليب دولة، وإنه ليطلب إلى الناس أن تنفر للقاء هذا الأمر الخطير، ويراها غمّة على صدر الأمة لا تنجلى، ويفتح عينه فى كل يوم أو فى كل صباح فيراها جاثمة لا تريم. ولعله كان يريد القاضى الزينبى الذى زجّ به فى السجن كما مر بنا، فإنه تولى الوزارة، ويقال إنه لما وليها دخل عليه ابن القطان والمجلس غاص بأعيان الرؤساء وقد اجتمعوا لتهنئته، فوقف بين يديه ودعا له وأظهر الفرح والسرور، ورقص. فلما رآه الزينبى يرقص أسرّ إلى بعض خواصه: قبّح الله هذا الشيخ، فإنه يشير برقصه إلى ما تقول العامة فى أمثالها: «ارقص للقرد فى زمانه». وبحق ما قاله الزينبى إذ نراه يقول فى هجائه لبعض الرؤساء:

كلّ من صفّق الزما ... ن له قمت أرقص

وكان بينه وبين الحيص بيص الشاعر بغض ومهاترة، وكانا يصطلحان وقتا ثم يعودان إلى ما كانا فيه من التنابذ والتهاجى تماجنا وتظرفا ودعابة، فمن ذلك أن الحيص بيص خرج ليلة من دار الوزير الزينبى، فنبح عليه جرو كلبة، وكان متقلدا سيفا، فوكزه بعقب السيف، فمات. وعلم بذلك ابن القطان، فنظم أبياتا، وأضاف إليها بيتين من أبيات ديوان الحماسة لأعرابى قتل أخوه ابنا له، فقدّم إليه ليثأر منه وكان بيده سيف، فألقاه من يده وأنشد البيتين. وكتب ابن القطان الأبيات فى ورقة وعلّقها فى عنق كلبة لها جراء، ورتّب معها من طردها هى وجراءها أو أولادها إلى باب دار الوزير كالمستغيثة، فأخذت الورقة من عنقها، وعرضت على الوزير، فإذا فيها:

يا أهل بغداد إن الحيص بيص أتى ... بفعلة أكسبته الخزى فى البلد

هو الجبان الذى أبدى شجاعته ... على جرىّ ضعيف البطش والجلد

فأنشدت أمّه من بعد ما احتسبت: ... دم الأبيلق عند الواحد الصّمد

«أقول للنفس تأساء وتعزية ... إحدى يدىّ أصابتنى ولم ترد

كلاهما خلف من فقد صاحبه ... هذا أخى حين أدعوه وذا ولدى»

وجلب ابن القطان البيتين الأخيرين من ديوان الحماسة من أروع أمثلة التضمين، فقد بلغ بهما كل ما أراد من سخرية بالحيص بيص، إذ جعل الكلبة تقول بلسان حالها إن أخى الحيص بيص الذى موقعه منى موقع إحدى يدى جنى علىّ سهوا وخطأ لا عمدا ولا قصدا لسوء، وإن كلا من الأخ القاتل سهوا والابن المفقود يعوّض عن

<<  <  ج: ص:  >  >>