للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان ذكيا ذكاء نادرا مع حضور البديهة ورهافة الحس، ويروى أنه أحضر إلى يوسف بن أبى سعيد السيرافى النحوى وهو طفل لم يبلغ عمره عشر سنوات، فلقنه النحو، وقعد معه يوما فى حلقته-كما يقول مترجموه-فذاكره بشئ من الإعراب على عادة التعليم، فقال له: إذا قلنا «ضرب زيدا عمرا» فما علامة النصب فى عمرو؟ فقال: بغض على (يشير إلى عمرو بن العاص). فعجب أستاذه والحاضرون من حدة خاطره. وهو زعيم شعراء العراق فى عصره غير مدفع، وقد تفتحت موهبته الشعرية مبكرة بعد العاشرة من عمره بقليل كما يقول الثعالبى، ويمضى مشيدا به وبشعره قائلا: «هو اليوم أبدع أبناء الزمان وأنجب سادة العراق، يتحلّى مع محتده الشريف، ومفخره المنيف، بأدب ظاهر، وفضل باهر، وحظ من جميع المحاسن وافر، ثم هو أشعر الطالبيين: من مضى منهم ومن غبر، ولو قلت إنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق، وسيشهد بما أجريه من ذكره شاهد عدل من شعره العالى القدح، الممتنع عن القدح، الذى يجمع إلى السلاسة متانة، وإلى السهولة رصانة، ويشتمل على معان يقرب جناها، ويبعد مداها». ويقول صاحب الدمية: «أنا إذا مدحته كنت كمن قال للشمس: ما أنورك. . وله شعر إدا افتخر به أدرك من المجد أقاصيه، وعقد بالنجم نواصيه». وقد توفى ببغداد ودفن فى الكرخ سنة ٤٠٦ وهو فى السابعة والأربعين من عمره، ويقال إن رفاته نقل إلى مشهد الحسين فى كربلاء.

ويدل شعر الشريف الرضى على أنه تأثر أشد التأثر بالمتنبى فقد أكبّ عليه يقرؤه المرة والمرات، محبّا له متعاطفا معه، متمثلا لكل ما يقول من شكوى الزمان وأنه لا يعطيه ما يستحقه، وكان المتنبى كما مرّ بنا يريد أن يكوّن دولة عربية، والدهر يناهضه، وكان الرضى يشعر فى أعماقه بأنه خليق أن يكون هو الخليفة دون أبناء عمه العباسيين، وتدفعه الضرورة إلى مصانعتهم بمديح لا يزال يزخر-مثل مديح المتنبى-بالفخر والشكوى من الأيام التى لا تنيله مبتغاه، حتى ليقول للقادر:

عطفا أمير المؤمنين فإننا ... فى دوحة العلياء لا نتفرّق

ما بيننا يوم الفخار تفاوت ... أبدا كلانا فى المعالى معرق

إلا الخلافة ميّزتك فإننى ... أنا عاطل منها وأنت مطوّق

وظل شعوره بأحقيته فى الخلافة لا يفارقه طوال حياته، مما جعل أشعاره تطبع-كما طبعت أشعار المتنبى-بالتذمر من الدهر، بل بالثورة عليه دون أن يلم به شئ من يأس أو قنوط. وليس هذا ما يجمعه بالمتنبى فقط، فإنه يجمعه به أيضا شعور عارم بالفتوة وقوة النفس والكبرياء والكرامة والأنفة والعزة، ولذلك كان شعرهما من خير ما يربّى به

<<  <  ج: ص:  >  >>