للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشباب، إذ يدلع فى أنفسهم الشعور الطاغى بالقوة وتمثل الأخلاق الرفيعة، على نحو ما نرى فى هذه الأبيات من قصيدة:

لغير العلا منى القلى والتجنّب ... ولولا العلا ما كنت فى الحبّ أرغب

وإن تك سنّى ما تطاول باعها ... فلى من وراء المجد قلب مدرّب

وحسبى أنى فى الأعادى مبغّض ... وأنى إلى غرّ المعالى محبّب

وللحلم أوقات وللجهل مثلها ... ولكنّ أوقاتى إلى الحلم أقرب (١)

ولا أعرف الفحشاء إلا بوصفها ... ولا أنطق العوراء والقلب مغضب (٢)

وتموج أشعاره بمثل هذا الفخر الذى يضرم جذوة النفس ويوقدها إيقادا ويدفعها دفعا إلى النهوض بجلائل الأعمال. وجامعة ثالثة تجمعه بالمتنبى هى استشعار البادية وروحها، إحساسا منه بأنه عربى أصيل، نفس إحساس المتنبى الذى دفعه إلى أن يجعل البدويات موضع نسيبه، كذلك صنع صنيعه الرضىّ، فهو دائم التغزل بالبدويات، دائم الافتتان بهن والتغنى بجمالهن وحسنهن الطبيعى، وله فى ذلك أشعار بديعة من مثل قوله:

يا ظبية البان ترعى فى خمائله ... ليهنك اليوم أنّ القلب مرعاك

الماء عندك مبذول لشاربه ... وليس يرويك إلا مدمع الباكى

سهم أصاب وراميه بذى سلم ... من بالعراق لقد أبعدت مرماك (٣)

حكت لحاظك ما فى الرّيم من ملح ... يوم اللّقاء فكان الفضل للحاكى

أنت النعيم لقلبى والجحيم له ... فما أمرّك فى قلبى وأحلاك

وهو نسيب رقيق كنسيب العذريين، بل ربما كان أكثر رقة، إذ تجرى فيه نغمة من لأسى والحزن واللوعة وكأنما يبثّ فيه يأسه من آماله فى الخلافة، وكأنما يراها نفس هؤلاء البدويات اللائى يتعثر فى شباك هواهن، دون أن يقطف شيئا من أزهار حبّه. وإنما استطردنا كل هذا الاستطراد فى الشريف الرضىّ ليطلع القارئ على روعة أشعاره، قبل أن نعرض لرثائه جده الحسين، وفى الديوان مراث كثيرة لأم الرضىّ وأبيه ولبعض أساتذته وأصدقائه مثل ابن جنى وأبى إسحق الصابئ، وله فى جده الحسين خمس مراث، وهو يتسع أحيانا فى بعضها فيجعلها مرثية عامة لآل البيت، ونكتفى بأن نعرض أهمها فى رأينا، وهى آخر مراثيه لجده، وأعتقد أنه أراد بها النّواح عليه وأن ينشدها النّاحة فى بغداد وكربلاء، وهو يستهلها بقوله:


(١) الجهل هنا: الغضب
(٢) العوراء: الكلمة القبيحة
(٣) ذوسلم: موضع بالحجاز: والسلم: شجر من العضاه.

<<  <  ج: ص:  >  >>