العصر إلى أن يهجر فى غزله المرأة المتحضرة، وكأنه رآها أو رأى كثيرات من الجوارى ببغداد فى أوائل شبابه يتهالكن على اللهو ويسرفن فيه، فصمم-كما مرّ بنا-أن يتخذ البدويات الأعرابيات موضوعا لغزله، حتى يردّ إلى الغزل فى أيامه العفة والسمو والنبل والارتفاع عن الجسد والغريزة التى يشترك فيها الإنسان والحيوان، وحتى يذيع فيه أريج الوجدان النقى الأفلاطونى البرئ، كما يذيع فيه شذا الحنان الذى يكتظ به الغزل العذرى عند العرب وما يطوى فيه من حرارة ولوعة. وهذا الوتر من الغزل البدوى الطاهر الملتاع الذى شدّه المتنبى إلى قيثارته، تبعه فيه الشريف الرضى يشده بدوره إلى قيثارة شعره مستخرجا منه ما لا يكاد يحصى من الأنغام كما أشرنا إلى ذلك فى ترجمته، على شاكلة قوله:
خذى نفسى يا ريح من جانب الحمى ... ولاقى به ليلا نسيم ربى نجد
فإنّ بذاك الجوّ حيّا عهدته ... وبالرغم منى أن يطول به عهدى
ولولا تداوى القلب من ألم الجوى ... بذكر تلاقينا قضيت من الوجد
وما شرب العشّاق إلا بقيّتى ... ولا وردوا فى الحبّ إلا على وردى
فقد انقطعت الأسباب بينه وبين محبوبته النجدية، ولم يبق من أمل إلا أن تلتقى نفسه من جانب الحمى بقطع من النسيم المعطّر بشذا صاحبته، نسيم ربى نجد الذكىّ، وإنه ليشعر بآلام ثقال بقلبه من أثر الحب وعذابه وأوصابه، آلام ليس لها من دواء إلا دواء ذكريات لقائهما، ولولا هذا الدواء لمات أسى والتياعا. وياله من عاشق شرب كأس الحب، حتى لم يبق لغيره منها سوى الثمالة، وكأنه أب العشاق أو كبيرهم، فجميعهم إنما يرد على ورده وينهل من بقية شربه. وتبعه تلميذه مهيار يشدّ إلى قيثارته نفس هذا الوتر، كما مرّ بنا فى ترجمته، صابّا فى أشعاره منه ألحانا كثيرة من مثل قوله:
قل لجيران الغضا آه على ... طيب عيش بالغضا لو كان داما
نصل العام ولا ننساكم ... وقصارى الوجد أن نسلخ عاما
حمّلوا ريح الصّبا نشركم ... قبل أن تحمل شيحا وثماما
وابعثوا أشباحكم لى فى الكرى ... إن أذنتم لجفونى أن تناما
والغضا من أشجار نجد، وكذلك الشيح والثمام من نباتاتها ذات الرائحة الطيبة.
والقطعة تفيض بالحنين لصاحبته وأهلها من جيران الغضا أو أهل نجد، فإنه لا ينساهم ولا يسلوهم، ولا يزال يأمل فى أن تحمل ريح الصبا نشرهم العطر حتى يردّ إليه روحه،