للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والورود وكيف كانت تهبّ للأنس رياح، سحابها الأقداح، وبرقها الراح، وقد نطقت ألسنة العيدان والنايات تسند غناء الجوارى والمغنين بألحانها الشجية، ويطيل فى وصف الخمر وأن منها ما كأنه عصر من خدّ الشمس، وما هو أصفى من الماء، وأرق من دمعة العاشق المهجور (١). والكتاب إنما كتب فى وصف المجون ببغداد لعصر مؤلفه، وينبغى أن لا نظن أنه يمثل صورة الحياة العامة، إنما هى صورة حياة طبقة خاصة هى الطبقة المترفة، وكان وراءها الشعب يكدح ويتصبّب جبينه عرقا كى تملأ هذه الطبقة بطونها وتملأ مجالسها بالشرب من الطاس والكاس. وحقا كانت للشعب مواسم للهو والعبث، غير أنها قلما تعدّت أعياد المجوس والنصارى مما عرضنا له فى غير هذا الموضع.

على كل حال ينبغى أن لا نبالغ فى تصور ما كان ببغداد من اللهو والمجون، وأن نقصر ذلك على الفئة الأرستقراطية أما الشعب فحسبه منها ما كان يستمتع به من لهو فى بعض الأعياد وخاصة أعياد الربيع، وظل ذلك طوال العصر ومن خير ما يصوره مقامة لظهير الدين الكازرونى المتوفى سنة ٦٩٧ عرض فيها لهذا الجانب من لهو البغداديين وخروجهم إلى الرياض وتنزههم فى الحدائق والأنهار قائلا: «أما زمان الربيع وأيام الوشى البديع فإنهم كانوا يصطحبون ويتجمعون وينثالون (كأنهم إلى نصب يوفضون) فينزلون الجوارى (السفن) فى رهط من الجوارى، ويدخلون نهر عيسى ويباكرون إلى قصده. . ويخترقون أشجاره ويقطفون ثماره ونوّاره، ويفترشون رياضه وأزهاره وينزلون غيطانه وأنهاره، ثم تعزف القيان وتصطخب العيدان، وتصفّق الغدران، وترقص الأغصان، وتميد الأفنان، وكلما دسع (امتلأ) الرّاووق (دنّ الخمر وطاسه) طاب المشوق. . وكلما طرب العود، زمجرت الرعود، وقد انتظموا فى سلك الراحة، واجتمعوا للاستراحة، كذلك أياما، لا يطعمون مناما» (٢) ولم تكن حانات بغداد فى الكرخ ولا حانات المتنزهات وحدهما هما اللتان يجد فيهما عشاق المجون ما يصبون إليه من الخمور بل كانوا يجدونها أيضا فى الأديرة.

وبذلك كله ظلت الخمرية تتردد على ألسنة الشعراء، وظلوا يصوغونها، وكل منهم يحاول أن يأتى فيها بمقطوعة أو قصيدة بديعة، وقد نظمت كثير من الخمريات فى مجالس الوزير المهلبى، ولعل جليسه القاضى أبا القاسم التنوحى كان المجلّى بين ناظميها بمثل قوله فى


(١) حكاية أبى القاسم البغدادى ص ٤٥ وما بعدها.
(٢) انظر مقامة ظهير الدين الكازرونى (طبع بغداد) ص ٢٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>