للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إحدى خمرياته (١).

وراح من الشمس مخلوقة ... بدت لك فى قدح من نهار

هواء ولكنه جامد ... وماء ولكنه غير جار

وهو تصوير بديع أن يجعل الخمر شمسا أو قطعة منها وماء غير جار والكأس نهارا وهواء جامدا. وكان كثيرون من أهل بغداد رجالا ونساء يحفظون الخمرية لجمال تصويرها، يدل على ذلك ما حكاه ابن خلكان-فى ترجمة صاحبها-عن الحسن بن عسكر الصوفى الواسطى قال: كنت ببغداد فى سنة إحدى وعشرين وخمسمائة جالسا على دكة بباب أبرز للفرجة إذ جاء ثلاث نسوة فجلسن إلى جانبى، فأنشدت متمثلا:

هواء ولكنه جامد ... وماء ولكنه غير جار

وسكتّ، فقالت إحداهن: هل تحفظ لهذا البيت تماما؟ فقلت: ما أحفظ سواه، فقالت: إن أنشدك أحد تمامه وما قبله ماذا تعطيه؟ فقلت ليس لى شئ أعطيه، فأنشدتنى الخمرية وزادت بعد البيت السابق:

إذا ما تأمّلتها وهى فيه ... تأملت نورا محيطا بنار

فهذا النهاية فى الابيضاض ... وهذا النهاية فى الاحمرار

فحفظت البيتين منها. وإنما روينا ذلك لندل على ظرف الجوارى فى بغداد وأن سوق الخمريات كانت رائجة، ولذلك كان الشعراء يحاولون الإبداع فيها والإتيان بالمعانى المبتكرة الطريفة كقول الببّغاء فى عتق الخمر (٢):

وعريقة الأنساب والشّيم ... موجودة والخلق فى العدم

هى آدم الكرم المولّد فى ال‍ ... دّنيا وحوّا الخمر فى القدم

ظهرت ونور الشمس فى فلك ... من قبل خلق الصبح والظّلم

واشتقّ معنى اسم السّلاف لها ... من كونها فى سالف الأمم

وبون بعيد بين هذه الخمرية وخمرية التنوخى فى بعد الخيال والتصوير. ومن قديم يمزج الشعراء فى الخمرية بين الحب ونشوة الخمر. ومن طريف ما كان يطرب الناس ببغداد لعهد أبى حيان التوحيدى غناء سندس جارية ابن يوسف صاحب ديوان السواد، وهى تتشاجى وتتدلل وتتمايل وتتكسّر متغنية بهذه الخمرية (٣).


(١) انظر ترجمة القاضى التنوخى فى ابن خلكان ٣/ ٣٦٦ والجواهر المضية ومعجم الأدباء ١٤/ ١٦٢.
(٢) اليتيمة ١/ ٢٦٢.
(٣) الإمتاع والمؤانسة ٢/ ١٧٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>