للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مجلس صبّين عميدين ... ليسا من الحبّ بخلوين

قد صيّرا روحيهما واحدا ... واقتسماه بين جسمين

تنازعا كأسا على لذّة ... قد مزجاها بين دمعين

والكأس لا تحسن إلا إذا ... أدرتها بين محبّين

ومن قديم أيضا يمزج الشعراء بين النشوة بالخمر والنشوة بالطبيعة، إذ كانوا فعلا كما مر بنا يشربونها على أبسطة الربيع وبين آسه وورده وزهره، ونقلوا الأزهار إلى مجالسها، حتى تعبق بروائحها أو قل نقلوا الربيع بكل ما فيه نقلا يأخذ بمجامع القلوب ويمتزج بالنفوس.

فكان طبيعيا أن يتحدث الشعراء فى خمرياتهم عن جمال الطبيعة وجمال الورود والرياحين فى الربيع، وقرنوا إلى ذلك سقوط الثلج فى الشتاء كقول الوزير المهلبى فى إحدى خمرياته (١):

الورد بين مضمّخ ومضرّج ... والزهر بين مكلّل ومتوّج (٢)

والثلج يهبط كالنّثار فقم بنا ... نلتذّ بابنة كرمة لم تمزج (٣)

وكان الغناء يرافق الخمر، كما أشرنا إلى ذلك، فعرضت خمريات كثيرة للغناء والخمر معا، كما عرضت أخرى للغزل بالسقاة من الغلمان، وكثير منه كان يقصد به إلى التندر والدعابة فى أثناء السكر. وكان الغزل بالغلمان لونا من ألوان التماجن فى العصر، وهو -لا شك-وصمة معيبة فى جبين أصحابه.

ودفع التماجن إلى ظهور أشعار لا يستحى أصحابها من ذكر العورات والإسراف فى الفحش، ونعجب الآن أن يتّخذ ذلك ضربا من الهزل والتسرية عن الناس، وكأنما أعياهم أن يسرّوا عن أنفسهم، فالتمس بعض الشعراء هذه التسرية التى تؤذى النفوس الكريمة. وكان شعراء هذا الهزل الماجن يمزجونه بفكاهات ونوادر ودعابات كثيرة، وكأنهم أحسوا أنه يجب تخفيف حدّته، وأنى لهم؟ ! فقد كان يمتلئ بسخف كثير، وسخفه ليس ناشئا عن التورط فى الخمر فحسب وإنما أيضا عن التورط فى وصف الفواحش والتصريح بالآثام فى غير استحياء. وكان الذى دفع إلى ذلك ابن سكّرة وابن الحجّاج فى القرن الرابع، غير أن شعراء الخمر أنفسهم من حولهما ومن بعدهما كانوا يترفعون عن هذا الدّرك


(١) اليتيمة ٢/ ٢٣٧.
(٢) مضمخ: ملطخ بالطيب، مضرج: ملطخ بالحمرة.
(٣) النثار: ما ينثر فى حفلات العرس والسرور من نقود أو حلوى.

<<  <  ج: ص:  >  >>