للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وغنىّ لها الحادى فأذكرها الحمى ... وأيامها فيه وساعات وجرة (١)

وقد شركتنى فى الحنين ركائبى ... وزدن علينا رنّة بعد رنّة (٢)

ألا ليت شعرى هل تعود رواجعا ... ليالى الصّبا من بعد ما قد تولّت

والحنين يجرى فى الأبيات كما يجرى الماء والخضرة فى الأغصان النضرة، وقد جعل ناقته أو دابته نفسها تحنّ حنينا لا ينقطع إلى منازلها، وهو حنين يضاعفه فى نفسها ما يلوح لها من برق ليلا صادرا من جانب الغور، وكأنه شعلة نار تستدعيها وتناديها من بعيد.

كما يضاعف هذا الحنين شدو الحادى وغناؤه، فتذكر أيامها فى وجرة وغير وجرة. ويصرّح بأن ناقته وركائبه تشركه فى الحنين، بل تزيد عليه رنة بعد رنة، فيأسى لها ولنفسه، ويتمنى لو عادت ليالى الصبا وكيف تعود وقد تولت إلى غير مآب، ولم يبق إلا الوجد والحنين الذى يتّقد فى فؤاده بمثل قوله:

حبّذا نجد بلادا لم نجد ... راحة للقلب فى أرض سواها

فإذا ما لاح منها بارق ... هاج أشواقى أو هبّت صباها

لست أنسى إذ سليمى جارة ... تبذل الودّ وتصفينا هواها

أرسلت طيف كرى لكنّه ... زارنا والعين قد زال كراها (٣)

فنجد راحة نفسه ومسرة قلبه، وإنه ليذكر أيامها وما كان يغمره فيها من متاع وسعادة، حتى إذا لاح برق أو هبّ نسيم صبا هاجت به أشواقه، وأعادت إليه ذكرى حبه لسليمى حين كانت تبادله الهوى والود. وقد ضاع كل هذا الحلم منه وضاع منه النوم، فلم يعد يستطيع أن يراها أو يرى طيفها، وهو يتجشم أهوال وجده ويحتمل آلامه، باكيا ذارفا دموعه كما يقول:

بان الخليط فأدمعى ... وجدا عليهم تستهلّ (٤)

وحدا بهم حادى الفرا ... ق عن المنازل فاستقلّوا (٥)

قل للذين ترحّلوا ... عن ناظرى والقلب حلّوا

ما ضرّهم لو أنهلوا ... من ماء وصلهم وعلّوا

فأحبابه رحلوا وحبّات دموعه لا تزال تتساقط على خدوده، وهل يملك سوى البكاء


(١) وجرة: موضع بنجد.
(٢) الركائب: الإبل.
(٣) الكرى: النوم.
(٤) تستهل: تنصب.
(٥) استقلوا: ارتحلوا.

<<  <  ج: ص:  >  >>