للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفيك نرى الفضاء وهل فضاء ... سوى هذا الفضاء به تدار

وعندك ترفع الأرواح أم هل ... مع الأجساد يدركها البوار

وموج ذى المجرّة أم فرند ... على لجج الدروع له مدار

وطوق للنجوم إذا تبدّى ... هلالك أم يد فيها سوار

وأفلاذ نجومك أم حباب ... تؤلّف بينه لجج غزار

وتنشر فى الفضا ليلا وتطوى ... نهارا مثلما يطوى الإزار

ومعروف أن من الفلاسفة من كانوا يذهبون إلى أن العالم يديره الفلك دورة مقصودة له، وكان هناك من يذهبون إلى أن للكواكب تأثيرا بعيدا فى حياة الناس وكل أحوال العالم. وواضح أن ابن الشبل يصور حيرة لا قرار لها حول الفلك وحركته، فهل هى اضطرارية من قبل الذات العلية أو هى اختيارية، ويتساءل فى أى شئ مداره وحركته.

وهل ترفع الأرواح إلى عالمه العلوى أو تفنى مع الأجساد فى العالم السفلى، وهذه المجرة التى تتدفق ليلا فى السماء بالنور هل هى موج من الأضواء كموج البحر أو هى أثر تموجات ضوئية تلمح كما يلمح تموج الضوء فى صفحة الفرند أو السيف، وهل الهلال طوق معلّق للنجوم أو سوار يلمع فى يد على صفحة السماء، والنجوم هل هى أفلاذ وأرواح أو هى حباب طاف على سطح السماء كحباب الماء، إنها تنشر ليلا وتطوى نهارا. فما أعظم ذلك من لغز كبير، بل ألغاز كبيرة، يقف الإنسان إزاءها مبهوتا يتملكه الدّهش وتتملكه الحيرة، حيرة يضل بين لججها ولا يمكنه أن يرسو على شاطئ، لأن أحدا لا يملك الجواب ولا يعرفه، ويمضى ابن الشّبل فى عرض هذه الألغاز:

ودهر ينثر الأعمار نثرا ... كما للورد فى الروض انتثار

ودنيا كلما وضعت جنينا ... غذته من نوائبها ظؤار (١)

هى العشواء ما خبطت هشيم ... هى العجماء ما جرحت جبار (٢)

فمن يوم بلا أمس ويوم ... بغير غد إليه بنا يسار

فهذا الدهر. يسقط الأعمار كما تسقط الورود فى الروض وتذبل وتفارقها النضرة والحياة، وهذه الدنيا كلما وضعت جنينا لم ترضعه، بل تركته لظؤار أو مرضعة ترضعه النوائب والخطوب، وما الدنيا؟ إنها عشواء لا تبصر، وكل ما تخبطه من الأنفس يصبح هشيما، إنها لعجماء خرساء كل ما تجرحه يهدر ولا يصلح أبدا. وما الحياة فى رأى ابن الشبل إلا يوم بدون أمس يسبقه ويوم بدون غد يلحقه، إنها مأساة كبرى، سببها ذنب آدم


(١) ظؤار: المرضعة لابن غيرها.
(٢) جبار: هدر لاقصاص فيه ولا غرم.

<<  <  ج: ص:  >  >>