للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حتى إذا توفّى المهلبى سنة ٣٥٢ وصادر معز الدولة البويهى أمواله قبض على أبى إسحاق الصابئ فيمن قبض عليه من أصحابه وخلصائه. واستعطف معز الدولة بقصائد جعلته يعفو عنه ويعيده إلى عمله فى ديوان الرسائل. وظل قائما عليه طوال عهد ابنه عز الدولة بختيار، وكان قد نشب خلاف بينه وبين ابن عمه عضد الدولة البويهى، وكان الصابئ فى أثناء ذلك يكتب باسمه مكاتبات إلى عضد الدولة تؤلمه، وحدث أن تقرّر الصلح بينهما ذات مرة، فطلب بختيار إلى الصابئ أن يكتب نسخة يمين يستوفى فيه الشروط على عضد الدولة حق الاستيفاء، ولم يجد عضد الدولة حينذاك بدّا من حلف اليمين، وعرف أن أبا اسحاق الصابئ كاتبه، فحقد ذلك عليه. وتطورت الظروف، ونشبت حرب بين بختيار وعضد الدولة سنة ٣٦٧ وسقط بختيار فى ميدانها صريعا واستولى عضد الدولة على بغداد والعراق، وسرعان ما اعتقل الصابئ وزجّ به فى غياهب السجون. وما زال بعض كبار رجال الدولة يشفعون له، فقال عضد الدولة: ليصنف كتابا فى أخبار آل بويه، فأخذ فى تصنيف كتاب «التاجى» وهو فى السجن، ونقل إلى عضد الدولة أنه سئل عما يصنع، فقال: أباطيل أنمّقها وأكاذيب ألفّقها، فحنق عليه حنقا شديدا، وصمم أن يرميه تحت أرجل الفيلة ليقتل أشنع قتلة، وعاد كبار رجال الدولة يتشفعون له، فعفا عنه إلا أنه ظل مبعدا فى أيامه، حتى إذا توفى عضد الدولة سنة ٣٧٢ عاد إلى تولى ديوان الإنشاء وظل يليه إلى وفاته سنة ٣٨٤. وقالوا إنه كان يتولى نقابة الصابئة فى بغداد وإنه كان شديد الإيمان بدينه الوثنى، وحاول عز الدولة مرارا أن يدخله فى الدين الحنيف فكان يعتذر. وكان يصوم شهر رمضان مع المسلمين. وظل الحكام البويهيون ووزراؤهم يرتضون أن يكون على رأس الديوان أحد الصابئة عبدة الكواكب والنجوم، وكأنهم تسامحوا معه لتفوقه فى الكتابة، يقول الثعالبى إنه «أوحد العراق فى البلاغة ومن به تثنى الخناصر فى الكتابة، وتتفق الشهادات له ببلوغ الغاية فى البراعة والصناعة» ويقول أبو حيان التوحيدى: «نظمه منثوره، ومنثوره منظومه، إنما هو ذهب إبريز كيفما سبك فهو واحد. وله فنون من الكلام ما سبقه إليها أحد، وما ماثله فيها إنسان» وقد نشر شكيب أرسلان مختارات من رسائله بلبنان فى مجلدين، وهى مطبوعة بطوابع السجع والمحسنات البديعية، وفيها يقتبس كثيرا من آى القرآن الكريم، ويضمنها أحيانا بعض الأحاديث النبوية وبعض الأشعار القديمة والحديثة، وكان يطيل فى التحميدات أول الرسائل حتى ليظن قارؤه أنه من جلّة المسلمين، كقوله فى مطلع إحدى رسائله:

«الحمد لله العلىّ العظيم، الأزلى القديم، المتفرد بالكبرياء والملكوت، المتوحد

<<  <  ج: ص:  >  >>