للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالعظمة والجبروت، الذى لا تحدّه الصفات، ولا تحوزه الجهات، ولا تحصره قرارة مكان، ولا يغيّره مرور زمان، ولا تتمثّله العيون بنواظرها، ولا تتخيّله القلوب بخواطرها، فاطر السموات وما تظلّ، وخالق الأرض وما تقلّ».

وهو يستمر فى هذا التحميد طويلا، ولو لم نعرف أن الصابئ كاتبه لظنناه أحد الكتاب المسلمين المثقفين بثقافة الاعتزال، المؤمنين بوحدانية الله وتنزيهه عن الشبه بالمخلوقات، فلا يحصره مكان ولا زمان ولا تحده جهات ولا صفات، إذ ليس بجسم ولا عرض، فالعيون لا تتمثله والخواطر لا تتخيله، مبدع السموات والأرض. وفى هذه السطور من التحميد ما يوضح قدرته على السجع، وهو لا يكتفى فيه بالروى الذى يجمع بين نهايتى السجعتين، بل يحاول أن يوازن بين ألفاظ كل سجعتين فى عدد حروفهما وحركاتهما وسكناتهما، وكأن الرسالة صفوف موسيقية متقابلة، فكلمة «العلى العظيم» يليها «الأزلى القديم» وكلمة «المتفرد بالكبرياء والملكوت» يليها «المتوحد بالعظمة والجبروت» وتتوالى السجعات، فكل سجعة تسمع فى تاليتها جرسها الموسيقى، مع المهارة فى اصطفاء الألفاظ. واقرأ له هذه القطعة من رسالة على لسان عز الدولة. . حاول فيها أن يستعطف عضد الدولة وأن يرده إلى ما بينهما من صلة الرّحم:

«إن من أعظم محن هذا البيت أن تزول منابت فروعه عن منابت أصوله، وأن تؤتى مراسى أوتاده من ذوائب عروشه، وأن تدبّ بينهم عقارب المشاحنة، وتسرى إليهم أراقم المناقشة، وتنبثّ الدواهى فيهم من ذاتهم، وقد كانت محسومة من أضدادهم وعداتهم».

وإنما تمثلنا بهذه القطعة لنشير إلى أنه كان فى أحيان قليلة لا يلتزم السجع بين كل عبارة وتاليتها، ومع ذلك كان يلتزم فيها الموازنة الصوتية الدقيقة بين كلمات الصيغتين المتجاورتين حتى يتلافى ما نقصهما من تماثل الروى فى نهايتهما. ومرّ بنا أن أبا حيان أشار إلى أن له فنونا من الكلام لم يسبقه إليها أحد، ولعله يشير بذلك إلى بعض رسائل هزلية له، وهى ليست رسائل سلطانية ولا إخوانية جادة، إنما هى رسائل أراد بها إلى الإضحاك وإدخال شئ من السرور والسعادة على قارئه، من ذلك رسالة رواها ابن خلكان كتبها ردّا على رقعة وصلت إليه من شخص، كان أهدى إليه جملا، وذكر ذلك فى رقعته، وفيها يقول:

«ذكرت حملا (كبشا) جعلته جملا، . . فلما أن حضر رأيت كبشا متقادم الميلاد، من نتاج قوم عاد، قد أفنته الدهور، وتعاقبت عليه العصور. . فبانت دمامته، وقصرت قامته، وعاد ناحلا ضئيلا، باليا هزيلا، بادى الأسقام، عارى العظام. . لا تجد فوق عظامه سلبا، ولا تلقى يدك منه إلا خشبا، قد طال للكلإ فقده، وبعد بالمرعى عهده،

<<  <  ج: ص:  >  >>