للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لم ير القتّ إلا نائما، ولا الشّعير إلا حالما. . وقلت أذبحه ليكون وظيفة للعيال. . فأنشدنى وقد أضرمت النار، وحدّت الشّفار:

أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشّحم فيمن شحمه ورم (١)

ثم قال: وما الفائدة من ذبحى، ولست بذى لحم فأصلح للأكل لأن الدهر قد أكل لحمى، ولا ذى جلد يصلح للدّباغ لأن الأيام قد مزقت أدمى، ولا ذى صوف يصلح للغزل لأن الحوادث قد حصّت (أذهبت) وبرى».

وليست الفكاهة شيئا سهلا، فقليلون هم الذين يحملون هذه الروح، وهى تدل على ظرفه وأنه كان لطيف المحضر حلو الحديث، ولذلك قرب من نفوس معاصريه. وسجعه فى هذه الرسالة التى يجدر بنا أن ندخلها فى حيز الرسائل الأدبية مكتمل الأداء الموسيقى، وهو قصير قصرا تسرى فيه العذوبة والرشاقة. وقد تطول السجعة كما فى السجعات الثلاث الأخيرة، ولكنه يحتال عليها باكتمال الملاءمة الصوتية بين كلمات كل سجعة وتاليتها وكأننا بإزاء معادلات موسيقية تامة. وللصابئ رسالة أدبية هزلية أخرى تحتل فى الجزء الرابع عشر من صبح الأعشى ست (٢) صفحات كبيرة، وهى صورة عهد بالتطفل كتبه على لسان متطفل بغدادى كبير فى عصره كان يسمى عليكا إلى متطفل ناشئ، يسمى على بن عرس الموصلى، وهو يستهله بأن عليكا عهد إلى تلميذه بإحياء سننه وحفظ رسومه من التطفل على أهل بغداد وما يتصل بها من أرباضها (ضواحيها) وأكنافها فى سوادها وأطرافها لما توسّمه فيه من قلة الحياء، وشدة اللقاء، وكثرة اللّقم، وجودة الهضم، ويأخذ فى سرد وصاياه فى شكل أوامر وفرائض يجب أن يتّبعها ابن عرس، من ذلك أنه:

«أمره أن يعتمد موائد الكبراء والعظماء بغزاياه، وسمط الأمراء والوزراء بسراياه. .

وأمره أن يتبع ما يعرض لموسرى التجّار، ومجهّزى الأمصار، من بنيان الدار، والعرس والإعذار (الختان). . وربما صبروا على تطفيل المتطفلين، وأغضوا على تهجم الواغلين (الممعنين فى التطفل) ليتحدّثوا بذلك فى محافلهم الرّذلة، ويعدّوه فى مكارم أخلاقهم النّذلة. . وأمره أن يصادق قهارمة الدور ومدبّريها، ويرافق وكلاء المطابخ وحمّاليها، فإنهم يملكون من أصحابهم أزمّة مطاعمهم ومشاربهم، ويضعونها بحيث يحبون من أهل موداتهم ومعارفهم. . وأمره أن يتعهد أسواق المسّوقين، ومواسم المتبايعين، فإذا رأى


(١) البيت للمتنبى من قصيدته التى عاتب فيها سيف الدولة الحمدانى. والضمير فى أعياذها يعود إلى نظرات يقول له: أعيذ نظراتك البصيرة أن تخدعك فلا تفرق بين شاعرك وغيره من حاسديه الذين يتظاهرون لك بمثل مودته تمويها وخداعا.
(٢) صبح الأعشى ١٤/ ٣٦٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>