للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سلبوا وأشرقت الدماء عليهم ... محمّرة فكأنهم لم يسلبوا

فقد نثره فى فصل من جملة رسالة تتضمن البشرى بهزيمة الكفار ومحقهم محقا لم يبق منهم ولم يذر. والفصل يجرى على هذا النمط:

«سلبوا وعاضتهم الدماء عن اللّباس، فهم فى صورة عار وزيّهم زىّ كاس، وما أسرع ما خيط لهم لباسها المحمّر، غير أنه لم يجيّب (١) عليهم ولم يزرّ، وما لبسوه حتى لبس الإسلام شعار النصر، الباقى على الدهر، وهو شعار نسجه السّنان الخارق، لا الصّنع الحاذق، ولم يغب عن لابسه إلا ريثما غابت البيض (٢) فى الطّلى والهام (٣)، وألّف الطّعن بين ألف الخط واللام».

والفصل يدل على مهارة ضياء الدين فى السجع، وهى مهارة كتب بها مجلدات، كما أسلفنا من الرسائل الديوانية. ونراه فى المثل السائر يحمل على الأسجاع الغثة التى تحيل الكلام رصفا لألفاظ وحشدا لكلمات دون أن تحمل شيئا من المعانى الطريفة المبتكرة، بحيث لا يلذ السجع الفكر كما لا يلذ السمع.

وينوه ابن خلكان ببعض صوره واستعاراته فى أسجاعه، ويضرب لذلك بعض الأمثلة، منها قوله فى وصف النيل وقت زيادته وفيضانه فى رسالة من رسائله: «وعذب رضابه فضاهى جنا النّحل (٤)، واحمرّ صفيحه فعلمت أنه قتل المحل (٥)». ويقول ابن خلكان: «وهذا بديع غريب نهاية فى الحسن، ولم أقف لغيره على أسلوبه». وضياء الدين يشير به إلى طمى النيل، وكأنه فى رأيه دماء الجدب، وهى حقا صورة رائعة. وجعلته عنايته بالمعانى والصور المبتكرة يؤلف كتابه «المعانى المخترعة فى صناعة الإنشاء» كما جعلته عنايته بحل الشعر والاقتباس من آيات القرآن والأحاديث النبوية يؤلف كتابه: «الوشى المرقوم».

وفى الحق أن ضياء الدين بن الأثير كان من الكتاب المجيدين، ولم تحظ العراق بعده بكاتب ديوانى على مثاله أو مثال أنداده السابقين. وحرى بنا أن نترك كتاب الدواوين إلى أدباء العصر النابهين: أبى حيان التوحيدى، وابن مسكويه، والحريرى.


(١) جيب الثوب: جعل له جيبا وهو فتحته العليا.
(٢) البيض: السيوف.
(٣) الطلى: الأعناق، والهام: الرءوس.
(٤) الرضاب: الريق ورغوة العسل. جنا النحل: عسله
(٥) المحل: الجدب.

<<  <  ج: ص:  >  >>