بل الغريب من تغافل عنه القريب، بل الغريب من حاباه الشّريب (١)، بل الغريب من نودى من قريب، بل الغريب من هو فى غربته غريب، بل الغريب من ليس له نسيب، بل الغريب من ليس له من الحق نصيب. . والغريب من غربت شمس جماله، واغترب عن حبيبه وعذّاله. . والغريب من إن حضر كان غائبا، وإن غاب كان حاضرا. .
والغريب من إذا ذكر الحق هجر، وإذا دعا إلى الحق زجر، وإذا قعد لم يزر. . الغريب من إذا قال لم يسمعوا قوله، وإذا رأوه لم يدوروا حوله. . الغريب من إذا أقبل لم يوسّع له، وإذا مرض لم يسأل عنه. . الغريب من إن زار أغلق دونه الباب، وإن استأذن لم يرفع له الحجاب. . الغريب ليله أسف، ونهاره لهف، وغداؤه حزن، وعشاؤه شجن، وسره علن، وخوفه وطن».
وهى كلمات من سيل الغربة الذى تدفق فى صفحات الإشارات، وكأنما هو سيل ليس له آخر من المعانى التى صيغت فى أسلوب الازدواج. وغلب السجع فى هذه الكلمات، وهو يكثر فى الإشارات كثرة لا نراها فى كتبه الأخرى، مما يدل على أنها حقا آخر كتاباته.
ونجد فيها نفس الحرارة التى لا تغيب أبدا عن كتابات أبى حيان لا فى شبابه ولا فى هرمه.
وارجع إلى فكر أبى حيان الخصب فى هذه الكلمات وما يصوره من ضروب الغربة، حتى لتشمل الغربة النفسية لمن لم يغترب، بل لمن يواصله الحبيب وينعم بوصله. وبذلك بثّ فى كلامه معانى إنسانية عميقة، وهى تجرى فى كتاباته، وقد ختم حديثه عن الغريب بقوله:
«دع هذا كله. الغريب من أخبر عن الله بأنباء الغيب داعيا إليه، بل الغريب من تهالك فى ذكر الله متوكلا عليه، بل الغريب من توجه إلى الله قاليا لكل من سواه، بل الغريب من وهب نفسه لله متعرّضا لجدواه». فحتى الصوفى غريب، ولعله أولى بالشفقة والعطف من جميع الغرباء حوله. ومن أروع الأشياء حقا أدعيته ومناجياته لربه فى الإشارات من مثل قوله:
«اللهم روّح صدورنا بنسيم ودّك، واغمر أرجاء قلوبنا بغوامر من رفدك، وأذقنا حلاوة برّك، وجد علينا بك، وخلّ بيننا وبينك، وجلّ أبصارنا إليك. . واجعل أرواحنا مغارس معرفتك، وألسنتنا قواطف وصفك ونعتك، فى قدرتك وحكمتك، وإذا عطشنا فروّنا، وإذا ضعفنا فقوّنا، وإذا اعوججنا فسوّنا، وإذا اعتللنا فداونا، وإذا كدرنا فصفّنا، وإذا دنسنا فنقّنا. . وإذا بنّا منك فصلنا بك».
وخصائصه التى صورناها واضحة فى هذا الدعاء، فهو يعتمد فيه على الازدواج