للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقع فى نحو ثلثمائة وستين صحيفة، إذ لم يترك جانبا فيهما إلا مزقه تمزيقا، وخاصة الصاحب بن عباد، وإنه ليعتذر عن ثلبه وذمه بمثل قوله فى الكتاب:

«رمانى عن قوسه معترقا (١) فأفرغت ما كان عندى على رأسه مغيظا، وحرمنى فازدريته، وحقرنى فأخزيته، وخصّنى بالخيبة التى نالت منى، فخصصته بالغيبة التى أحرقته، والبادى أظلم، والمنتصف أعذر، وكنت كما قال الأول:

وإن لسانى شهده يشتفى به ... أجل وعلى من صبّه الله علقم

ولئن كان منعنى ماله الذى لم يبق له، فما حظر علىّ عرضه الذى بقى بعده، ولئن كنت انصرفت عنه بخفّى حنين، لقد لصق به من لسانى وقلمى كل عار وشنار (٢) وشين، ولئن لم يرنى أهلا لنائله (٣) وبرّه، إنى لأراه أهلا بقول الحق فيه، ونثّ (٤) ما كان اشتمل عليه من مخازيه، ولئن كان ظن أن ما يصير إلىّ من ماله ضائع، إنى لأوقن الآن أن ما يتصل بعرضه من قولى شائع. والمنصف فى الحكم يعذر المظلوم، ويلوم الظالم».

وواضح فى الفقرة أن أبا حيان يعتمد فى أسلوبه المزدوج على المقابلات، فهو يقابل بين صنيع الصاحب به وصنيعه بالصاحب فى كل عبارتين متواليتين. وهو يتسع فى ذلك هنا وفى كثير من جوانب كتاباته، يرفده فى ذلك ذهن خصب حافل بالمعانى المتقابلة فلا يكاد المعنى يدوّنه قلمه حتى يسيل معه مقابله. وشئ من ذلك كان عند الجاحظ وقد صورناه فى حديثنا عنه بكتابنا «الفن ومذاهبه فى النثر العربى» ولكن الجاحظ لا يبلغ فيه هذا المبلغ الذى نجده عند أبى حيان فقد كانت ثقافته، وخاصة الثقافة الفلسفية، أوسع بحكم تقدم العصر، فغزر فكره إلى أقصى حد، وكان لسانه يطاوعه ولا يتأبى عليه شئ من التعبير، فاتسعت المقابلات عنده واتسع توليد المعانى بل فيضانها من نبع متدفق لا يتوقف رفده ولا مدده.

ونراه فى الإشارات يصور إحساسه فى أواخر حياته بالغربة التى طالما أمضته والتى وصفها فى مقدمة رسالته: الصداقة والصديق، إذ لم يبق له مؤنس ولا صاحب ولا مشفق إلا الوحشة والوحدة، وكادت شمس الحياة تغرب، وماء الحياة ينضب. وإنه ليطيل فى الإشارات فى وصفه للغريب إذ يمتّد فى ست صفحات لبّته فيها الألفاظ ولبّته المعانى بمثل قوله:

«قد قيل الغريب من جفاه الحبيب، وأنا أقول: بل الغريب من واصله الحبيب،


(١) معترقا: أى حتى نفذ السهم من اللحم إلى العظم.
(٢) شنار: شنعة.
(٣) نائل: عطاء.
(٤) نث: نشر.

<<  <  ج: ص:  >  >>