للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

استوعبها استيعابا رائعا، وصدر عنها فى كتاباته صدورا طبيعيّا، كما يصدر الضوء عن الشمس. وأداه ذلك إلى أن ينفصل عن موجة السجع التى سادت الكتابات الأدبية فى أيامه، إذ رأى فيها طلبا للفظ أو الألفاظ واستعلاء لها على المعانى، بل قل تحيّفا وانتقاصا، فازورّ عنها، وكانت المكتبة العربية قد ألقت بكنوزها بين يديه فى أثناء وراقته ونسخه، فراعه أسلوب الجاحظ وأدبه، إذ رآه يوازن موازنة دقيقة بين الأداء الصوتى والمعانى، مستخدما أسلوب الازدواج الذى عرف به، وقد يتخلله فى الحين البعيد بعد الحين السجع، ولكن دون التزامه ودون الإكثار منه، فاستقر هذا الأسلوب فى نفس أبى حيان وأصبح جزءا لا يتجزأ من أدبه وكتاباته. ويبلغ فيه ذروة من الجمال الصوتى لعلها لا تقل جمالا وروعة عن نظيرتها عند الجاحظ. وهو يتسع اتساعا واضحا فى أسلوبه بالترادف وما يتبعه من التقطيع الصوتى، ولنقرأ هذه الفقرة فى فاتحة الرسالة التى توسل بها إلى أبى الفتح بن العميد.

«اللهم هيّئ لى من أمرى رشدا، ووفّقنى لمرضاتك أبدا، ولا تجعل الحرمان علىّ رصدا، أقول وخير القول ما انعقد بالصواب، وخير الصواب ما تضمن الصدق، وخير الصدق ما جلب النفع، وخير النفع ما تعلق بالمزيد، وخير المزيد ما بدا عن شكر، وخير الشكر ما بدا عن إخلاص، وخير الإخلاص ما نشأ عن اتفاق، وخير الاتفاق ما صدر عن توفيق».

وقد بدأ أبو حيان الرسالة بالسجع وسرعان ما انصرف عنه إلى أسلوب الازدواج، معادلا بين كل عبارة وتاليتها معادلة صوتية دقيقة، وليس ذلك فحسب، فإنه يستغل قدرته الفكرية فى تفريع الجمل بعضها من بعض، إذ بدأ بالصواب وجعله ينتهى بالتوفيق. ونحس كثيرا إزاء ازدواجات أبى حيان وتفريعاته كأنما يريد أن يكتسح بها قارئه اكتساحا، دون أن يستطيع تخلصا أو إفلاتا. وكان عجبا له أن هذه الرسالة التى كتبها لأبى الفتح لقيت منه إعراضا، وعرف أن السبب فى ذلك أنها لم تكتب بلغة السجع لغة معاصريه، إنما كتبت بأسلوب الجاحظ، فرأى أن يدافع عن هذا الأسلوب بقوة مما جعله يكتب رسالة فى تقريظ الجاحظ يشيد فيها به وبفنه. ولا يروعنا عنده ظاهر هذا الأسلوب وما يتخلله من السجع أحيانا إنما يروعنا فيه أيضا ما شفعه به من تلوينات عقلية تتداخل فى جميع أوعيته الصوتية، ونقصد الشراب السائغ الذى تحمله هذه الأوعية من المعانى الغزيرة حين يتحدث عن موضوع من الموضوعات، فإذا هو يستقصيه من جميع أطرافه، ولا يكاد يترك فيه فكرة ولا خاطرة. ويكفى لبيان ذلك كتابه «مثالب الوزيرين» الذى

<<  <  ج: ص:  >  >>