للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بلسان حاد. وهى طبيعة أبى حيان حين يهجو يسفّ فى هجائه إسفافا شديدا، حتى لنراه يصف الباقلانى بأنه على طرائق الملحدة. وربما كان من أسباب حملته على المتكلمين -بجانب أنه سنى-ما أشرنا إليه فى غير هذا الموضع من أنهم كانوا يصلون بين الفلسفة والدين، وكان هو وأستاذه أبو سليمان يرون الفصل بينهما، حتى لا يتسلل الإسماعيلية وغيرهم عن طريق هذا الوصل، كما مرّ بنا، إلى مذاهبهم ونحلهم الباطلة. وكان يهاجم الشيعة كما هاجم المتكلمين وكانت الدولة البويهية الحاكمة لبغداد شيعية، فلم يجاهرهم بالهجوم، بل اتبع طريقة أخرى: أن يكتب رسالته التى سماها رسالة السقيفة، وينسبها إلى أبى بكر وعمر زاعما أنهما وجّها بها إلى على بن أبى طالب لبيان أنه دون أبى بكر منزلة فى استحقاق الخلافة. وقد نشرها بدمشق إبراهيم الكيلانى مع رسالتين أخريين: أولاهما فى علم الكتابة والثانية فى بيان أنواع الحياة على نحو ما كان يتصورها المتفلسفة فى عصر أبى حيان. وله رسالة فى بيان ثمرات العلوم نشرت ملحقة بكتاب الصداقة والصديق المطبوع فى القاهرة وبها تعريفات للعلوم المختلفة.

ووراء كل ما قدمنا لأبى حيان كتب ورسائل أخرى سقطت من يد الزمن، فلم تصلنا، منها رسالة سماها «الحج العقلى إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعى» وأكبر الظن أنه يقصد بها-إن صحت نسبتها إليه-النسك والعبادة لمن لا يستطيعون إلى الحج سبيلا.

وذكر ياقوت رسالة له كتبها إلى أحد أصدقائه سنة أربعمائة وفيها يذكر أنه أحرق كتبه، لما فقد من الولد النجيب والصديق والحبيب والتابع الأديب، ونظن ظنا أنه لم يحرق جميع كتبه، وإنما أحرق طائفة منها يريد أن ينشرها فى الناس، ولعله لم يرتض أن تنسب إليه.

وعلى كل حال كتبه المهمة كانت قد ذاعت وشاعت نسخها فى الناس، فلم يؤثر إحراقه لها -إن كان قد أحرقها-شيئا. وكأن هذا الإحراق كان معلما قويا على طريق حياته التى أخذ يمضيها فى شيراز منذ هذا التاريخ متجها بكيانه وروحه إلى بارئه، مناجيا له وداعيا، مع اتخاذه لنفسه حلقة يروى فيها الناس عنه-كما ذكر السبكى-الحديث النبوى حتى وفاته.

وأبو حيان يعدّ أكبر أدباء العراق فى هذا العصر من القرن الرابع الهجرى إلى القرن الثالث عشر، ويمتاز أدبه بتنوع موضوعاته، إذ تناول فيه-كما فى كتابه الإمتاع والمؤانسة-كثيرا من جوانب التفلسف والفكر العميق فى الإلهيات والطبيعيات والإنسان والأخلاق والنفس، فأدبه ليس لفظيا، قعقعة ولا طحن، بل هو أدب يحمل زادا كبيرا من المعانى، وقد أشار مرارا فى الإمتاع وغيره من كتبه إلى أن واجب الكاتب أن يعنى بالمعانى كما يعنى بالألفاظ، وهو شئ طبيعى لمن تمثل مثله ثقافة زمنه على اختلاف ألوانها، فقد

<<  <  ج: ص:  >  >>