ونمضى مع أبى حيان بعد وفاة ابن سعدان، ويبدو أنه عاد بعده إلى عملين: الوراقة وتأليف بعض الكتب والرسائل وأهم كتاب أخرجه بأخرة من حياته كتاب الإشارات الإلهية المطبوع فى القاهرة وبيروت، وأكثره مكتوب فى صورة رسائل موجهة إلى بعض الضالين عن طريق الهداية الإلهية وإلى بعض السالكين وإلى مجموعة من المتصوفة. وتتخلّل ذلك مناجيات وأدعية وابتهالات تصوّر استشرافه إلى الملأ الأعلى. وقد يهبط من هذا الملكوت إلى تصوير ما استشعره سنوات طوالا من الضياع والحرمان والشكوى من الناس شكوى مريرة حتى ليتجه إلى ربه فى رسالته رقم «يه» قائلا: «اللهم إليك أشكو ما نزل بى منك، وإياك أسأل أن تعطف علىّ برحمتك، فقد-وحقّك-شددت الوثاق، وضيّقت الخناق، وأقمت الحرب بينى وبينك». ومثل هذا الإحساس بالتمرد على الخالق إنما بلغ ذروته، حتى أصبح إحساسا بالحرب كما يقول، فى عهود وقوفه بأبواب الوزراء:
أبى الفضل بن العميد وابنه أبى الفتح والصاحب بن عباد. ولذلك نظن ظنا أن الإشارات الإلهية مثلها مثل كثرة كتبه لم تؤلف فى عام واحد ولا فى أعوام قليلة، فبعضها يرجع إلى الستينيات من حياته إن لم يكن إلى الخمسينيات، وبعضها متأخر فى السبعينيات من حياته وبعد السبعينيات يدل على ذلك ما يجرى فى كلامه من هجر للدنيا وترهاتها وتعلق بالله ووقوف طويل ببابه فى طلب العفو والرجاء فى نعيمه، وعيناه تعتصرها الدموع، وقلبه يتحرق شوقا لاكتحال بصره بنور ربه.
وحاول الدكتور عبد الرحمن بدوى فى تقديمه للكتاب أن يربط بين مناجيات أبى حيان فى الإشارات وبين مزامير داود وبعض آيات الأناجيل وأولى من ذلك فى رأينا الربط بين مناجياته والمناجيات المبثوثة فى عيون الأخبار لابن قتيبة، فمصادرها عنده مصادر إسلامية لا أجنبية. وهى تدل بقوة على تعمق الدين الحنيف فى فؤاده وصفاء جوهره الروحى. أما ما ردده ابن الجوزى والذهبى وغيرهما-ونقله عنهم السبكى فى طبقاته-من أنه كان زنديقا كبيرا، فهو بهتان عليه أى بهتان، وقد دافع عنه السبكى، وقال إن الذهبى حمل عليه، كما حمل على المتصوفة جميعا، وهى حملة ظالمة.
والحق أنه كان سنيا شديد التمسك بالسنة ولعل هذا هو السبب المهم الذى جعله يهاجم المعتزلة والأشاعرة والمتكلمين مهاجمة عنيفة، حتى ليقول فيهم عامة فى الليلة الثامنة من كتابه الإمتاع:«لم أر متكلما فى مدة عمره بكى خشية أو دمعت عينه خوفا أو أقلع عن كبيرة رغبة. . جذّ الله عروقهم واستأصل شأفتهم» ويفضّل الأميين عليهم ويقول إنهم أتقى لله عز وجل وأذكر للمعاد وأيقن بالثواب والعقاب، ويسلق الباقلانى الأشعرى العظيم