اختلف مع لداته إلى يحيى بن عدىّ ومجالسه التى كان يحاضر فيها تلاميذه فى تلك العلوم، كما اختلف إلى حلقات شيوخ مختلفين فى اللغة والتاريخ، ثم التحق بالعمل مع المهلبى، ونراه فى كتابه تهذيب الأخلاق يصرح بأنه مرت عليه فترة كان يعكف فيها على اللذات الجسمانية ويستكثر من المطاعم والملابس والزينة وأنه تدرج إلى فطام نفسه بعد الكبر واستحكام العادة وأنه جاهد نفسه جهادا عظيما حتى استخلصها من مطالب النفس الشهوانية وارتقى بها إلى مطالب النفس الناطقة أو العاقلة من الفضائل. وأغلب الظن أن هذا الاسترسال فى اللذات إنما كان فى عهد المهلبى الذى مرّ بنا انهماكه فى الغناء والقصف وشرب الخمر وأنه كان يعقد بقصره لذلك ليلتين فى كل أسبوع، ولابد أن ابن مسكويه كان يحضر هذا المجلس من حين إلى آخر، واندفع فيما اندفع فيه المهلبى من اللهو، حتى إذا توفى وصادر معز الدولة أمواله وقبض على بعض حواشيه ولّى ابن مسكويه وجهه نحو الرّىّ ووزير ركن الدولة هناك أبى الفضل بن العميد، فأقامه خازنا على مكتبته. وربما كان فى ذلك ما يدل على أنه عرف بثقافة واسعة تشمل كل علم وكل فن، ولذلك اتخذه ابن العميد مشرفا على مكتبته ينظّمها ويضيف إليها روائع الكتب لزمنه فى مختلف العلوم والفنون. وتعرّف عليه أبو حيان التوحيدى حين وفوده على ابن العميد. وقال إنه رآه يهتم بعلم الكيمياء دون غيره من علوم الأوائل. وأكبر الظن أن أبا حيان بالغ فى قوله، فقد كان ابن مسكويه يهتم بعلوم الأوائل جميعا كما يتضح من مديحه لأبى الفضل بن العميد فى الجزء السادس من كتابه تجارب الأمم، إذ يقول عن شغفه بهذه العلوم:«فأما علم المنطق وعلوم الفلسفة والإلهيات منها خاصة فما جسر أحد فى زمانه أن يدعيها بحضرته» وطبيعى وابن مسكويه خازن كتبه أن يكون له بها نفس اهتمامه، وكان يعهد إليه بتربية ابنه أبى الفتح وتعليمه. ولما توفى أبو الفضل سنة ٣٦٠ وتحولت مقاليد الوزارة إلى أبى الفتح ظل خازنا لكتبه وأعلى منزلته. ويقبض على أبى الفتح سنة ٣٦٦ ويتحول ابن مسكويه إلى عضد الدولة البويهى، مؤملا العمل عنده فيتخذه خازنا لكتبه، ويجعله من ندمائه المقربين إليه، حتى إذا استولى على بغداد سنة ٣٦٧ تحوّل معه إليها. وأخذ يعنى-منذ هذا التاريخ على الأقل-بمجالس المتفلسفة ومصاحبتهم، فكان لا يكاد يفترق عن ابن الخمّار المتفلسف الذى مرّ ذكره، كما كان يلم أحيانا بمجلس أبى سليمان المنطقى السجستانى ويستمع إلى ما فيه من محاورات بين متفلسفة عصره. أما زعم أبى حيان بأنه أعطاه شرحا لإيساغوجى وقاطيغورياس لأبى القاسم غلام أبى الحسن العامرى سنة ٣٧٢ فلا يغض من شأنه كما أراد، بل لعله يدل على رغبته فى الاطلاع على كتب الفلسفة. وظل بعد وفاة عضد الدولة