فى السنة المذكورة يعمل مع ابنه صمصام الدولة (٣٧٢ - ٣٧٦ هـ) ثم مع ابنه الثانى بهاء الدولة (٣٧٩ - ٤٠٣ هـ) ويبدو أنه تحول مع صديقه ابن الخمار إلى بلاط خوارزم شاه مأمون بن مأمون إذ يذكر أنهما خدماه مع جملة من الأطباء منهم ابن سينا، ويغلب أن يكون ذلك فى أوائل القرن الخامس الهجرى. وحدث بينه وبين ابن سينا شئ من الجفوة، حتى ليذكر القفطى أن ابن سينا قال إنه حاضره فى مسألة فاستعادها كرات دون أن يفهمها، ويصفه بأنه كان عسر الفهم. وفى رأينا أن ابن سينا تجنّى عليه، كما تجنّى عليه أيضا أبو حيان فى كلمته عنه بكتابه الإمتاع إذ قال إنه «عيىّ بين أبيناء». وكتبه تشهد بفصاحته وذكائه. وبأخرة من حياته ترك خوارزم إلى أصفهان وعاش حتى بطلت حركته وبلغ من الكبر عتيّا، فقد توفى عن نحو مائة عام سنة ٤٢١. وكان شيعيّا إماميّا يعتقد بعصمة الإمام على نحو ما ذكر ذلك فى خواتيم كتابه الفوز الأصغر.
وابن مسكويه يعدّ فى الصفوة من فضلاء عصره وأجلاّئه، يقول الثعالبى فى وصفه:
«إنه فى الذروة العليا من الفضل والأدب والبلاغة والشعر» ويذكر له طائفة من أشعاره تدل على براعته الشعرية وإحسانه فى صنع الشعر ونظمه، غير أنه لم يتفرغ له ولم يجعله وكده وهمّه. وكان ناثرا بليغا كما يتضح من تراسله مع الخوارزمى وبديع الزمان. وفى رسائل الخوارزمى رسالة يعزيه فيها عن زواج أمه بعد وفاة أبيه، مما يؤكد أن صداقة كانت ناشبة بينهما، وربما رجعت إلى أيام شبابه. وفى ترجمة ياقوت له رسالتان متبادلتان بينه وبين بديع الزمان، يتنصّل البديع فى أولاهما من شئ بلغ ابن مسكويه عنه بعد مودة وثيقة كانت بينهما، وردّ عليه ابن مسكوية فاسحا فى تنصله ومشيدا ببلاغته. ولم يجعل ابن مسكويه التراسل الأدبى صناعته، إذ كان يهتم بالتأليف وبرسالة خلقية كبرى جرّد نفسه لها فى معظم كتاباته وتأليفاته، ويذكر له القفطى من كتبه المتصلة بالطب كتابا فى الأدوية المفردة، وذكر له كتابا فى الأطعمة.
وأول ما نقف عنده من كتبه كتابه «تجارب الأمم» وهو فى التاريخ العام من الطوفان حتى سنة ٣٦٩ مع أنه عاش بعد ذلك طويلا كما مرّ بنا، ويقال إنه وصل به حتى وفاة عضد الدولة صاحبه سنة ٣٧٢. ويبدو من مقدمة الكتاب ومن نفس اسمه أنه أراد به أن يتخذه الناس وخاصة الملوك والحكام والقواد عظة وعبرة، مما يرون فيه من أحداث التاريخ وتجاربه، فمقصده مقصد أخلاقى، وهو المقصد الأسمى الذى ابتغاه فى تآليفه على نحو ما سنرى عما قليل. وللكتاب أهمية تاريخية بعيدة، وقد سقط من يد الزمن أكثر أجزائه، ونشر منه القسم الأخير الخاص بالقرن الرابع الهجرى وهو فيه يعرض تاريخ البويهيين الذين خدم فى