للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دولتهم عرضا عادلا منصفا دون تحيز، ومما يدل على ذلك موقفه من صديقه أبى الفضل ابن العميد حين كفّ يده عن مساعدة المتطوعين لجهاد الروم الذين أقبلوا من خراسان فى حماسة بالغة حين جاءهم النبأ المشئوم باستيلاء الروم على ثغرى المصّيصة وطرسوس فى شمالى الشام، إذ وفدوا على أبى الفضل بن العميد فى الرىّ سنة ٣٥٤ يطلبون المال للميرة والسلاح، فردّهم ردّا منكرا، وكأنه خشى منهم مكيدة فسلّط عليهم جنوده، ففرّقوا جموعهم، ويأسى لذلك ابن مسكويه قائلا: «لو أن هؤلاء المتطوعين لجهاد الروم- وكانوا يبلغون نحو عشرين ألفا-أعطاهم ابن العميد المال الذى طلبوه لانضمت إليهم فى الطريق أعداد ضخمة من الغزاة المجاهدين ولنكّلوا بالروم نكالا شديدا، لكن لله أمرا هو بالغه». فصداقته لأبى الفضل بن العميد لم تمنعه من تسجيله عليه هذه الوصمة فى تاريخه، ويبدو أن ابن مسكويه فرغ من تأليفه لهذا الكتاب التاريخى الذى كان يقع فى ست مجلدات إما فى حياة عضد الدولة وإما بعد وفاته مباشرة لأنه لم يذكر فيه شيئا عن خلفائه من أبنائه.

وهذا المقصد الأخلاقى من العبرة والعظة الذى دفعه إلى تأليف هذا الكتاب التاريخى الضخم دفعه أيضا إلى تأليف كتابه «جاويدان خرد» أى العقل الأزلى، وقد اختار له اسما فارسيا، مما يدل على أنه ألف مبكرا، وهو لا يزال فى الرىّ بخدمة أبى الفضل بن العميد وابنه، وربما كان أول مصنفاته، وقد نشره الدكتور عبد الرحمن بدوى باسم الحكمة الخالدة، وهو يصوّر فى ابن مسكويه منزعا إنسانيا واضحا، إذ يجعل العقل الإنسانى وما ينتجه من الحكم فوق كل جنس وكل أمة، بدليل ما جمعه فى الكتاب من حكم الفرس والهند والعرب والروم الشرقيين، مما يثبت أن العقل الإنسانى واحد مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة بالإنسان، ومهما اختلفت الظروف الطبيعية والاجتماعية.

وقد شغل ابن مسكويه نفسه بالأخلاق حتى عدّ من أئمة نظرياتها ومباحثها، وهو يعرض لها فى ثلاثة كتب، هى الفوز الأصغر وتهذيب الأخلاق والهوامل والشوامل. أما الفوز الأصغر فقد تناول فيه ثلاث مسائل كبرى، وجعل كل مسألة فى عشرة فصول، والمسألة الأولى تتصل بالإلهيات، وهى فى إثبات الصانع وأنه واحد أزلى ليس بجسم وأنه واجب الوجود ليس بمتركب ولا متكثر ولا متحرك مما يؤكد أنه إنما يعرف بطريق السلب دون الإيجاب، وأيضا فإن الله أبدع الأشياء لا من شئ. والمسألة الثانية تتصل بالنفس وأحوالها وأنها ليست بجسم ولا عرض وأنها تدرك المحسوسات والمعقولات وأنها ليست الحياة بل هى التى تعطى الحياة، وهى لا تبطل ولا تموت، ولها حال من الكمال تكون بها سعادة

<<  <  ج: ص:  >  >>