الإنسان عن طريق الحكمة النظرية والأخرى العملية التى تحصل بها الهيئة الفاضلة التى تصدر عنها الأفعال الجميلة. وإذا عاق هذه الحكمة عائق فإنه يتدنّى فى حال من النقص يكون فيها شقاؤه. ويوضح هنا توضيحا رائعا كيف أن الإنسان خلق مدنيّا بالطبع، إذ لم يخلق خلق من يعيش وحده من الوحش والبهائم والطيور وحيوان الماء، فكلها تتم لها حياتها خلقة وإلهاما، أما الإنسان فلا تتم له حياته إلا بالتعاون والتعاضد فى كل ما يتعلق به من المطعوم والملبوس والمشروب. ويحمل على الزهاد الذين يحرّمون المكاسب لأنهم يعتمدون على الناس فى ضرورات أبدانهم ويطلبون معونتهم ولا يعاونونهم بشئ، وهم بذلك-فى رأيه-جائرون ظالمون. والمسألة الثالثة فى النبوات، وقد بدأ فصولها بالحديث عن مراتب الموجودات فى العالم التى تسرى فيها الحكمة ويظهر التدبير المتقن، وهى النبات والحيوان والإنسان. وكل نوع فى هذه الموجودات الثلاثة لا يزال يترقى حتى يصل إلى صورة النوع الذى يليه، فالنبات لا يزال يرقى حتى نرى أرفعه يقبل صورة الحيوان على نحو ما يرى فى أشجار النخيل ففيها المذكر والمؤنث وتحتاج إلى التلقيح كالسّفاد فى الحيوان، والحيوان لا يزال يرقى حتى يقبل صورة الإنسان فى القرود وما يماثلها فى الخلقة الإنسانية. وهى تقترب فى التمييز وقبول المعارف من الزنج وأشباههم. وبالمثل لا يزال يرقى الإنسان حتى يبلغ وجودا أعلى من الوجود الإنسانى وهو وجود الملائكة. ومن هنا أو فى هذه الدائرة يظهر الأنبياء. وواضح أن فكرة ترقى الموجودات عند ابن مسكويه تشبه نظرية أهل النشوء والارتقاء، مما يدل على روعة تفكيره وأصالته.
وخصّ ابن مسكويه نظريته الأخلاقية بكتاب مفرد هو تهذيب الأخلاق، وهو كتاب نفيس إلى أقصى حد ونظريته فيه تقوم على المزج بين الروح الإسلامية كما يمثلها القرآن الكريم والسنة النبوية وبين آراء فلاسفة اليونان: أرسطو وجالينوس وأفلاطون وكذلك آراء الكندى والفارابى وما قرأه من حكم الفرس والهنود والعرب وما تلقفه من تجارب الحياة. وهو يستهله بتعريف النفس وأنها ليست جسما ولا جزءا من جسم ولا عرضا، ويستدل على أنها ليست جسما بأنها تقبل صور الأشياء المتناقضة بينما الأجسام لا تقبل إلا صورة واحدة كالطول والعرض والبياض والسواد، ثم هى تدرك المحسوسات والمعقولات وتميز المدركات الحسية والعقلية الصحيحة والخاطئة. ويلاحظ-كما لاحظ الفلاسفة قبله-أن للنفس ثلاث قوى: قوة شهوانية وقوة غضبية وقوة عقلية ويقول إن الغرض من كتابه إصابة الخلق الشريف الذاتى لا العرضى عن طريق المال أو السلطان أو المكاثرة والمغالبة. ويمضى فيما وضع الكتاب من أجله وهو بيان نظريته الخلقية عن الخير