وبجانب ذلك كله نجده يعنى بالتلاؤم بين ألفاظه، فقلما تلقانا فيها لفظة نابية فى حروفها، وأيضا نجد عنده عناية واضحة بموسيقاه، ولعله من أجل ذلك كان يكثر من التصريع على نحو ما صنع فى المعلقة فقد صرّع فيها مرارا، كما فى بيته الذى أنشدناه آنفا والذى يخاطب فيه الليل. وفى الحق أن الموسيقى تطّرد فى المعلقة اطرادا، فلا نحس بنشاز، سوى الزحافات التى يكثر منها على شاكلة قوله:
فجئت وقد نضت لنوم ثيابها ... لدى السّتر إلا لبسة المتفضّل
فإن التفعيلة الثانية فى حشو البيت «مفاعلن» وليست مفاعيلن. وإذا قرأنا فى المعلقة قوله:
بضم لام القافية-وهذا ما يقتضيه القياس النحوى تقول: من أسفل الجبل ومن عل أى من أعلاه فتضم اللام على نية حذف المضاف إليه-أصبح فى البيت إقواء، وهو يكثر فى الشعر الجاهلى وخاصة قديمه. وأيضا إذا قرأنا وصفه للسيل وغثائه الملتف بجبل أبان فى قوله:
كأن أبانا فى أفانين ودقه ... كبير أناس فى بجاد مزمّل
بضم اللام فى كلمة «مزمل» وهو ما يقتضيه القياس النحوى لأنها صفة لكلمة كبير أناس المرفوعة أصبح فى هذا البيت هو الآخر إقواء، إذ اختلفت حركة الروىّ، فأصبحت مرفوعة بينما هى فى بقية القصيدة مجرورة. ويظهر أن هذا لم يكن يكثر عنده.
والحق أنه يعد أبا للشعر الجاهلى بل للشعر العربى جميعه، فقد استوى عنده فى صورة رائعة، سواء من حيث سبقه إلى فنون أجاد فيها، أو من حيث قدرته على الوصف والتشبيه، وقد مضى يعنى بأخيلته ومعانيه وألفاظه مما نجده مائلا فى استعاراته وبعض طباقاته وجناساته، وبذلك أعد الشعراء من بعده للعناية بحلى معنوية ولفظية محتلفة.