للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالتخويف والتفزيع» (١).

وأخذت موجة التصوف فى العصر تزداد حدة وقوة، وكان من مظاهر ذلك كثرة الرّبط المنظمة منذ القرن الرابع الهجرى، وأصل معنى الرباط مكان مرابطة الخيل للجهاد والحرب، وكأن زوايا المتصوفة كانت تبنى لهم فى هذا التاريخ على حافة قواعد الحرب الأمامية لجهاد أعداء الإسلام. واتسع مدلول الكلمة فيما بعد فأخذت تطلق على زوايا المتصوفة عامة، وكأنما أصبحت مكانا لتجمع المجاهدين أينما وجدت. ويقول المقدسى فى أواخر القرن الرابع الهجرى إنه كان فى إسبيجاب فيما وراء النهر على حافة الحرب مع الترك ألف وسبعمائة رباط، بينما كان فى بيكند ألف رباط (٢)، وهى ثغر جليل بين بخارى ونهر جيحون. وإذا كان هذا العدد الضخم من الرباطات فى ثغرين من ثغور الحرب فيما وراء النهر فما بالنا بما كان ببقية الثغور. ويذكر الحجويرى الأفغانى أنه لقى ثلثمائة من مشايخ الصوفية بخراسان ولكل منهم طريقته (٣).

ويشير المقدسى إلى كثرة الخانقاهات بإيران وماوراء النهر، وهى بيوت للعبادة كان يتخذها المتصوفة للنسك والإقامة، وهيأت هذه البيوت بسرعة لفكرة الشيخ ومريده، إذ كان يلزم شيوخ التصوف تلاميذ يأخذون عنهم طريقتهم وينشرونها، وكانوا يمنحون مريديهم خرقا حين يتم قبولهم رمزا إلى اعتزالهم متاع الحياة، بل كل الحياة وزخارفها، وكان ذلك يتم عن طريق مجاهدات كثيرة يقوم بها المريد قبل قبوله، وفى مقدمتها التجرد الكامل عن ضرورات الحياة ورفض مباهجها ونبذ متعها وتحمل آلام الفقر والجوع وكل ما يتعلق بالجسد، حتى الزواج فكان كثير منهم لا يتزوجون، بل قل إن كثرتهم الغالبة كانت لا تتزوج، ويحثّ أبو الليث السمرقندى المتوفى سنة ٣٧٣ كل من يستطيع الاستغناء عن الزواج أن يظل أعزب (٤) حتى يتجرد لعبادة الله ويتفرغ تفرغا كاملا. وحتى المرض ينبغى أن لا يهتم به الصوفى فيعرض نفسه على الأطباء للتداوى، فالطبيب هو الله، وهو جانب من عقيدتهم فى التوكل على الله حق التوكل، حتى ليهمل الصوفى كل تصرف شخصى، ويترك نفسه لعناية الله وقضائه، فلا يفكر فى رزقه ولا فى قوته ولا فى غده ثقة فى الله.

ودائما يرددون ذكر الله، واتسع ذلك عندهم حتى كانوا يعقدون له اجتماعات تقف بها طائفة منهم فى صفين متقابلين، وهى تذكر الله، متحركة بجسدها دون أقدامها يمينا


(١) طبقات الشافعية للسبكى ٥/ ٦٩.
(٢) أحسن التقاسيم للمقدسى ٢٧٣، ٢٨٢.
(٣) انظر كشف المحجوب للهجويرى-الترجمة العربية-للدكتورة إسعاد عبد الهادى (نشر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة) ١/ ٣٩١.
(٤) انظر كتابه بستان العارفين ص ١٩٧ - ١٩٨

<<  <  ج: ص:  >  >>