للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويسارا، ومنشد ينشد فى أعلى الصفين، وفى أثناء ذلك يهيم نفر منهم وينتشى، حتى ليحس كأنه غاب عن عالم حسه، وهو ما يسمونه بالسكر وكأنما يروى ريّا مسكرا بجمال الذات الإلهية، إذ تمتلئ بنور الله نفسه ويسلبها حواسها الجسدية، فتشعر كأنما تتجرد، عن كل إرادة، لمحبوبها الربانى، وهو ما يسمونه بالمحبة الإلهية، وكأنما الذكر رحيقها المسكر الذى يذيب الصوفىّ فى الجمال الربانى ويجعله يفنى فيه فى وجد لا يماثله وجد.

ومنذ الحلاج الذى تحدثنا عنه فى العصر العباسى الثانى أخذ بعض المتصوفة يؤمنون مثله بفكرة الاتحاد بالله، معتقدين أنه يتجلّى فيهم كما يتجلّى فى خلقه، وكأنهم يشاهدونه فى أنفسهم، أو كأنما يحلّ فيهم، مما هيأ لظهور فكرة الحلول عند بعض الغلاة من المتصوفة، وكانت هذه الأفكار سببا فى أن يحدث شئ من الانفصام بين أهل السنة والمتصوفة ووسّع الهوة بين الطرفين أمثال أبى سعيد بن أبى الخير (٣٥٧ - ٤٤١ هـ‍). أكبر الصوفيين الإيرانيين المتفلسفين فى عصره، وكان يعلى عمل الصوفى بقلبه على أداء فرائض الإسلام وأحكامه، وفى ذلك يقول ابن حزم: «إن من الصوفية من يقول إن من عرف الله سقطت عنه الشرائع. . وبلغنا أن بنيسابور اليوم فى عصرنا هذا رجلا يكنى أبا سعيد بن أبى الخير من الصوفية مرة يلبس الصوف، ومرة يلبس الحرير المحرم على الرجال، ومرة يصلى فى اليوم ألف ركعة، ومرة لا يصلى فريضة ولا نافلة، وهذا كفر محض، ونعوذ بالله من الضلال» (١). وليس هذا كل ما أحدث الهوة بين المتصوفة وأهل السنة، فقد أوغل بعضهم فى آراء ضالة، حتى ليعتنق بعض آراء المزدكية فى العكوف على الخمر واستحلال المحرّم، وغلا بعضهم فى تقدير شيوخ الصوفية حتى قدّمهم على الرسل والأنبياء، يقول ابن حزم: وطائفة من الصوفية زعمت أن فى أولياء الله تعالى من هو أفضل من جميع الأنبياء والرسل، وقالوا: من بلغ الغاية القصوى من الولاية سقطت عنه الشرائع كلها من الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك، وحلّت له المحرمات كلها. . وقالوا إننا نرى الله ونكلمه، وكل ما قذف فى نفوسنا فهو حق» (٢).

ولم تقف المسألة عند أفراد، فقد أخذت بعض طوائف الصوفية فى إيران يضعف عندها الوازع الدينى ويشيع عنها اهمال فرائض الإسلام، وسرعان ما تحولوا إلى طوائف من المتسولين، نذكر منهم جماعة الكرامية بخراسان وماوراء النهر، وكانوا، أو قل تحولوا، دراويش يطوفون فى البلدان لابسين أردية من الصوف، ومدلّين فوطا على رءوسهم تحيط


(١) الفصل لابن حزم ٤/ ١٨٨.
(٢) الفصل ٤/ ٢٢٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>