للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأستاذ (١). وكان الطلاب دائما كثيرين فى حلقات العلماء، فيروى أنه كان يحضر دروس أبى الطيب الصعلوكى مفتى نيسابور أكثر من خمسمائة طالب (٢). وفى هذا ما يدل على إقبال الشباب فى نيسابور على دروس الفقه والدين إقبالا منقطع النظير، ولم يكن ذلك فى نيسابور وحدها، فقد كان عاما فى مدن إيران وماوراء النهر من أرض الشاش وفرغانة، إذ كان حضور حلقات العلماء مباحا للجميع، فكان الناس من كل الأوساط يقبلون عليها، لا أوساط المثقفين فحسب، بل أيضا أوساط العامة، يدل على ذلك من بعض الوجوه ما رواه السبكى فى طبقاته من أن فقهاء الشاش «كتبوا إلى ابن سريج إمام الشافعية ببغداد يعلمونه أن الناس فى ناحيتهم: أرض الشاش وفرغانة مختلفون فى فقهاء الأمصار ممن لهم الكتب المصنفة والفتيا، ويسألونه أن يكتب لهم رسالة يذكر فيها أصول الشافعى ومالك وسفيان الثورى وأبى حنيفة وصاحبيه (محمد وأبى يوسف) وداود بن على الأصفهانى (صاحب مذهب الظاهرية) ويسألونه أن يكون ذلك بكلام واضح يفهمه العامىّ، فكتب القاضى لهم الرسالة» (٣).

فالثقافة الفقهية لم تكن وقفا على الفقهاء وتلاميذهم، بل كانت العامة تشارك فيها وفى دقائقها وتفريعاتها الكثيرة لا التى اختلف فيها أصحاب المذاهب الفقهية الكبرى: الشافعى ومالك وأبو حنيفة فحسب، بل أيضا تلك التى اختلف فيها معهم سفيان الثورى وداود بن على الأصفهانى. ونفس ما حدث بين أصحاب مذهب كبير كالمذهب الحنفى من خلاف مثل ما حدث بين أبى يوسف ومحمد بن الحسن الشيبانى وقفت عليه العامة فيما وراء النهر.

وظاهرة ثانية تدل على شيوع الثقافة الدينية فى إيران وأنها كانت عامة بين الناس، ولا تخص الرجال بل تعم النساء، وهى تتصل بالحديث النبوى وروايته، إذ نجد طائفة من النساء الإيرانيات يؤخذ عنهن الحديث كما يؤخذ عن علمائه الأثبات، ويذكرن فى تراجم بعض المحدثين وينصّ على أنهم حملوا الحديث عنهن، منهن كريمة المروزية، وعليها قرأ بمكة الخطيب البغدادى المحدّث المشهور صحيح البخارى، وسمع منها أيضا بمكة سعد الأسدآباذى (٤)، فهى لم تحدث فى موطنها فحسب، بل حدثت أيضا فى مجمع العلماء بالحرم المكى، وبأى كتاب؟ بأعظم كتب الحديث إسنادا: صحيح البخارى. ومن هؤلاء المحدثات المشهورات عائشة (٥) بنت عبد الله البوشنجية، وهى من محدّثات القرن


(١) طبقات السبكى ٥/ ١٨٤.
(٢) التهذيب للنووى (طبعة وستنفلد) ص ٣٠٧.
(٣) السبكى ٣/ ٤٥٧.
(٤) السبكى ٤/ ٣٠، ٣٨٣.
(٥) السبكى ٥/ ١١٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>