للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعلى نحو ما نشطت المباحث البلاغية فى إيران نشطت المباحث النقدية فى هذا العصر، وأول ما يلقانا منها رسالة الصاحب بن عباد فى الكشف عن مساوى المتنبى، وهو فيها ساخط عليه سخطا شديدا، وقد يردّ سخطه إلى عامل شخصى هو أن المتنبى أبى أن يمدحه، وأهم مساوى المتنبى فى رأيه الغموض فى أشعاره على طريقة الصوفيين فى عباراتهم الموهمة، وأنه استخدم الألفاظ الممعنة فى الغرابة، ورداءة المطالع كما يقول، والمبالغة المسرفة والاستعارة الذميمة، والنظم على القوافى الصعبة. ويلقانا فى خراسان لعصر نوح بن منصور السامانى (٣٦٦ - ٣٨٧ هـ‍.) راوية للمتنبى يسمى المتيم (١) وله فيه وفى شعره كتاب الانتصار المنبى عن فضل المتنبى وهو من الكتب المفقودة. وكان المتنبى قد شغل الناس فى إيران وغير إيران وأكثروا من التخاصم والجدل فى شعره، فألف على (٢) بن عبد العزيز الجرجانى المتوفى سنة ٣٩٢ كتابه الوساطة بين المتنبى وخصومه، وكان من قضاة الدولة البويهية فى إيران، فرأى أن يعرض شعر المتنبى على موازين القضاء العادل، وهدته هذه الموازين منذ الصفحات الأولى إلى أنه ينبغى أن لا يحكم على الشاعر بما أساء فيه، فلكل شاعر إساءاته وسقطاته، وإنما يحكم عليه بإحسانه وما جوّد فيه، ولذلك سارع إلى الحديث عن أغلاط الشعراء القدماء والمحدثين فى معانيهم وألفاظهم، ليبين أن شاعرا ممتازا من السابقين لم يخل شعره من هذه الأغلاط، وعرض لبعض ألوان البديع وصوره، ويفيض فى بيان الحسن والقبيح عند الشعراء وخاصة عند أبى نواس وأبى تمام. ويلمّ بطائفة من أبيات المتنبى التى أخذت عليه لبعد فى الاستعارة أو غرابة فى اللفظ أو تعقيد فى الكلام. ويوضح كيف أن ذلك عند المتنبى قليل. ويشيد بمطالعه الجيدة وحسن تخلصه ومعانيه الدقيقة، ويتحدث عن سرقاته حديثا مستفيضا مبينا أن السرقات شركة بين الشعراء جميعا. ولعلى بن عبد العزيز فى ثنايا كتابه نظرات نقدية تحليلية رائعة، منها ما يتصل بالغلو والمبالغة فى الشعر، ومنها ما يتصل بأثر البيئة فى الشعر والشعراء، ومنها ما يتصل بدقائق التشبيهات والاستعارات (٢). ويأتى بعده الثعالبى (٣) المتوفى سنة ٤٢٩ ويعقد فى كتابه اليتيمة فصلا طويلا عن المتنبى فيما له وما عليه، استغرق من الكتاب نحو مائة صفحة، وقد استهله بقوله عنه: «نادرة الفلك، وواسطة عقد الدهر فى صناعة


(١) انظر فى المتيم اليتيمة ٤/ ١٥٧ ومعجم الأدباء ٤/ ٢٤٤ وفوات الوفيات ١/ ١٣٣.
(٢) انظر فى تحليل الوساطة كتابنا البلاغة: تطور وتاريخ ص ١٣٢ وسنترجم للمؤلف بين الشعراء.
(٣) راجع فى الثعالبى دمية القصر وابن خلكان ٣/ ١٧٨ وعبر الذهبى ٣/ ١٧٢ وشذرات الذهب ٣/ ٢٤٦ ونزهة الألباء ص ٣٦٥ وروضات الجنات ٤٦٢ ومرآة الجنان ٣/ ٥٣ ومعاهد التنصيص ٣/ ٢٦٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>