للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تدعو قعينا وقد عضّ الحديد بها ... عضّ الثّقاف على صمّ الأنابيب (١)

ولم يجد النابغة بدّا من أن يسعى إلى الغساسنة وأن يمدحهم، حتى يكفّوا عن قومه ويردوا الحرية إلى من سبوه منهم، فنزل بعمرو بن الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج ابن الحارث الأكبر بن جبلة، ومدحه مدحا رائعا كما مدح أخاه النعمان. وأكبرا سفارته لديهما، فعفوا عمن أسراه، وكان جزاؤهما من النابغة مديحه الرائع لهما، وظل عندهما يبالغان فى إكرامه ويبالغ فى مديحهما، محاولا بكل ما استطاع أن لا يعودا إلى حرب قومه أو حرب أحلافهم. وقد مر بنا أن عشيرته يربوع كانت تنزل أحيانا فى بنى ضنة العذريين وعشائرها مثل بنى حنّ، فتوسع لهم فى ديارها ومراعيها، وحدثت النعمان نفسه بغزوهم، فتعرض له النابغة يخوفه منعتهم ومنعة ديارهم، ولما رأى منه إصرارا شديدا أرسل إلى عشيرته يدعوها أن تعين بنى حنّ، فأعانتها ومنيت جيوش الغساسنة بالهزيمة، وفى ذلك يقول:

لقد قلت للنعمان يوم لقيته ... يريد بنى حنّ ببرقة صادر (٢)

تجنّب بنى حنّ فإن لقاءهم ... كريه وإن لم تلق إلا بصابر (٣)

عظام اللهى أولاد عذرة إنهم ... لهاميم يستلهونها بالحناجر (٤)

وهم منعوا وادى القرى من عدوهم ... بجمع مبير للعدوّ المكاثر (٥)

وعلى هذا النحو كانت سفارته لدى الغساسنة ذات فوائد جليلة لقومه وأحلافهم، وما زال يرعى مصالحهم عندهم حتى توفّى عمرو ثم أخوه النعمان، فرأى أن يعود إلى النعمان بن المنذر، وكان قد غضب عليه غضبا شديدا، إذ كان يتخذه داعية له فى قومه، وكان يرى فى نزوله بالغساسنة ما يدفع ذبيان إلى أن تخرج على ولائها له، فهذا شاعرها وشريفها النابغة يلجّ فى مديح خصومه. وكأنه يعلن بذلك ولاءه وولاءها لهم.


(١) قعين: عشيرة من أسد. الثقاف: خشبة تقوم بها الرمح. الأنابيب: كعوب الرماح.
(٢) برقة صادر: موضع.
(٣) صابر: شجاع فى الحرب.
(٤) اللهى هنا: المال. لهاميم. جمع لهموم وهو الضخم العظيم. يستهلونها: يبتلعونها، يصفهم بعظم الحلوق وكثرة الأكل وضخم الأجسام.
(٥) مبير: مهلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>