للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خميس أقاصى الشرق ترزم تحته ... وترتجّ منه أخريات المغارب (١)

يلفّهم بالرّعب قبل طرادهم ... ويهزمهم بالكتب قبل الكتائب

وفى هذه الأثناء يتزوج، وما تلبث زوجته أن تتوفّى وتترك له رضيعا لا يزال يجد فى نفسه منه شجى عميقا عليها، ومراثيه فيها تفيض بالحزن المرير على شاكلة قوله:

بنفسى من غاليت فيها بمهجتى ... وجاهى وما حازت يداى من الوفر

وفزت بها من بين يأس وخيبة ... كما استخرج الغوّاص لؤلؤة البحر

فجاءت كما جاء المنى واشتهى الهوى ... كمالا ونبلا فى عفاف وفى ستر

فيا موت ألحقنى بها غير غادر ... فإن بقائى بعدها غاية الغدر

وهى مرثية بديعة، فقد أظلمت الدنيا فى عينى الطغرائى بعد زوجته الشابة الجميلة.

ولم يعد له منها سوى الأنين والدموع والزفرات، وإنه ليشيح بوجهه عن الصبر وأجره وثوابه مفضيا إلى لوعات قلبه وحسرات نفسه، إذ تركت بين جوانحه نارا لا تنطفئ، ويتوجه إليها بالخطاب نادبا لحظه العاثر، منشدا:

لآنستنا حتى إذا ما يهرتنا ... سنا-وسناء غبت غيبوبة البدر

وقد كان ربعى آهلا بك مدّة ... أحنّ إليه حنّة الطّير للوكر

وآوى إليه وهو روضة جنّة ... بدائعها يختلن فى حلل حمر

فمذ بنت عنه صار أو حش من لظى ... وأضيق من قبر وأجدب من قفر

لقد غاب عنه بدره وانقضّ وكره ودمّرت جنته وعاد يتقلب بعد أعطاف النعيم فى لظى الجحيم، وحتى مسكنه أصبح قبرا مظلما وقفرا مجدبا. ويظل يبكيها وتمر به الأيام، فيسلو عنها ويتزوج ويرزق الولد، وهو فى أثناء ذلك يعمل فى دواوين السلاجقة، ويتوفّى نظام الملك، وتضطرب به الحياة، فيتعرض لبعض الوزراء بالهجاء ولبعضهم بالمدح والثناء، وتتوثق صلته بالسلطان محمد بن ملكشاه (٤٩٩ - ٥١٢ هـ‍) ويصبح فى عهده نائبا فى ديوان الطّغراء أو بعبارة أخرى وزيرا للقلم والإنشاء. ونراه فى مدحة له يتحدث عن جيوشه ووقائعها مع الروم وما تلقى فى قلوبهم من فزع بمثل قوله:

خيل بأرض الرّقّتين وراءها ... نقع كمرتكم الغمام مثار

ريع العدوّ وقد أحسّ بقربها ... فالجنب ناب والرقاد غرار (٢)

وعلى خليج الرّوم منك مهابة ... من خوفها يتطامن التيّار

ولقد درى الرومىّ أنّ وراءه ... خطرا تقاصر دونه الأخطار


(١) ترزم: تسقط إعياء.
(٢) غرار: قليل

<<  <  ج: ص:  >  >>