للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشعب، فضلا عن الشعراء. ودائما يتضاعف إحساس الشاعر ببؤسه حين لا تصله الجوائز الكبيرة، وحين يجد من بعض الناس إعراضا عن شعره، فتظلم الدنيا فى عينيه، ويراها سوادا فى سواد وظلاما وحرمانا لا آخر له. ومثله العالم الفاضل الذى يرى علمه كاسدا، وأنه لن يروج إلا إذا لثم التراب وقبّل الأبواب، فبؤسا للعلم يكون هذا جزاءه، وبؤسا للشعر يكون هذا ثوابه. ويصور ذلك من بعض الوجوه عبد القاهر الجرجانى صاحب كتابى دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، وهما أروع ما صنّف فى البيان العربى، وكان مقصد الطلاب فى عصره من كل فجّ، ومع ذلك يرى عشرات من دونه يعلونه فى نعيم الحياة مخلّفين له البؤس والشظف، مما جعله يهتف بمثل قوله (١):

هذا زمان ليس في‍ ... هـ سوى النّذالة والجهاله

لم يرق فيه صاعد ... إلا وسلّمه النّذاله

واقرأ فى اليتيمة ودمية القصر والخريدة فستجد سيول هذه الشكوى تتدافع من كل جانب. وكثيرا ما كان يحدث لأمير أن يسلب سلطانه كما كان يحدث ذلك للوزراء، فكان منهم من ينظم الشعر يودعه شجونه، ومرت بنا مأساة قابوس بن وشمكير صاحب طبرستان إذ عزلته عن سلطانه حاشيته وألقت به فى غياهب السجون بإحدى القلاع حتى مات لوعة من شدة البرد وأسفا على ضياع سلطانه، وكان شاعرا كما كان كاتبا، فمضى يشكو شكوى مرة من الناس دون أن تنكسر نفسه، بل مع غير قليل من الصلابة، على شاكلة قوله (٢):

قل للذى بصروف الدّهر عيّرنا ... هل حارب الدهر إلا من له خطر

أما ترى البحر تعلو فوقه جيف ... وتستقرّ بأقصى قعره الدّرر

فإن تكن عبثت أيدى الزمان بنا ... ومسّنا من تمادى بؤسه ضرر

ففى السماء نجوم ما لها عدد ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر

وقد تتحول الشكوى من الزمان وأهله إلى ضرب من التشاؤم الشديد، فالزمان كله بؤس وتعاسة، والناس ليس فيهم فاضل ولا كريم، بل كلهم أخسّاء أنذال، حتى ليقول الفضل بن إسماعيل التميمى الجرجانى (٣):

ما فى زمانك ماجد ... لو قد تأمّلت الشواهد

فاشهد بصدق مقالتى ... أو لا فكذّبنى بواحد


(١) الدمية ٢/ ١٨
(٢) اليتيمة ٤/ ٦١ وابن خلكان ٤/ ٨٠
(٣) الدمية ٢/ ٢٨

<<  <  ج: ص:  >  >>