للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكأنها معصورة من خدّه ... إذ ظلت ترمقه بلحظ سام

وأبو المظفر يريد أن يعيش حياته لتناول الكئوس التى تلهب فؤاده، من كف ساق يقدم له بها ما يشفى سقامه، ويتخيلها كأنما عصرت من خدود جميلة، وهو يكبّ عليها غير محتشم ولا مفكر فى رشاد، فحسبه الخمر وحسبه احتساؤها، وليكن من الإثم ما يكون! ودائما تلقانا هذه الخمريات فى تراجم الشعراء، إذ كان يتورّط فيها كثيرون من مثل عمر الهرندى القائل (١):

لا أحبّ المدام إلا العتيقا ... ويكون المزاج من فيك ريقا

إنّ بين الضلوع منى نارا ... تتلظّى فكيف لى أن أطيقا

بحياتى عليك يا من سقانى ... أرحيقا سقيتنى أم حريقا

فبين ضلوعه نار متقدة لا يشفيها إلا الخمر وهو يعكف عليها، ولا يدرى أحريق هى أم رحيق لأنها تدفعه دائما إلى المزيد، بحيث لا يستطيع أن ينصرف عنها، إذ تأخذ عليه طريقه. وإنها لتظل تملؤه حبّا لها وشوقا لارتشافها، وهو يرتشف ولا يدرى أيرتشف رحيقا أو نارا أو قل أيرتشف شرابا هنيئا أو سمّا زعافا، وهو ممعن فى الشرب متعلق به، لا يستطيع فكاكا منه ولا خلاصا. وكانت للخمر مواسم عندهم هى الأعياد الفارسية والمسيحية، ففى عيد الشّعانين وفى أعياد النّيروز والمهرجان والسّذق أو النار المجوسية يشربون منها ويعبّون فى احتفالات صاخبة. وكانوا يشربونها كثيرا وسط الرياض، ولذلك يكثر عندهم معها وصف الطبيعة والربيع البهيج. وتلقانا فى أثناء ذلك أبيات طريفة من مثل قول أبى منصور قسيم بن إبراهيم، وكان ينظم باللسانين العربى والفارسى (٢):

وحجّب فى الثلج الربيع وحسنه ... كما اكتنّ فى بيض فراخ الطّواوس

وكانوا يخرجون أحيانا للصيد والطّرد. ولأحمد بن عضد الدولة طردية بديعة (٣).

ونعجب لألفاظ الفحش والمقاذر التى نجدها عند بعض الشعراء، وهو جانب أشاعه فى العصر ابن الحجاج الشاعر البغدادى المتوفى سنة ٣٩١ ومواطنه ابن سكرة. ويلاحظ ذلك صاحب الدمية حين يترجم للمشطّب الهمذانى، فيقول: «له أشعار سخيفة نسج فيها على منوال ابن الحجاج (٤)» ويذكر منها قصيدة مليئة بالفحش، وحتى الصاحب بن عباد الوزير الوقور تجرى أمثلة من هذا الفحش على لسانه فى أشعاره (٥)، وهى وصمة لها


(١) اليتيمة ٣/ ٤١١.
(٢) تتمة اليتيمة ٢/ ٤٥.
(٣) اليتيمة ٢/ ٢٢١.
(٤) الدمية ١/ ٥٧٢
(٥) اليتيمة ٣/ ٢٧٢ - ٢٧٥

<<  <  ج: ص:  >  >>