للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الناس بالمحشر وما فيه من أهوال وبعذاب النار ونعيم الجنان، موردين عليهم من قصص الأنبياء والأمم السالفة ما يملأ قلوبهم إيمانا وتقوى وورعا. وكانت العامة تشغف بهم، وتستدير حول مجالسهم منيبة إلى الله مغذّية مشاعرها وعواطفها بما تسمعه من مواعظهم.

وكان نفر من كبارهم مثل أبى عثمان الصابونى شيخ الإسلام بنيسابور المتوفى سنة ٤٤٩، وكان يعظ الناس بالعربية والفارسية لمدة ستين سنة متوالية (١)، وطبيعى أن يشعر مع هذا الوعظ شعر الزهد على ألسنة الوعاظ والفقهاء والنسّاك، فهو الشعر الذى تهوى إليه أفئدة الشعب، ولذلك مضى ينظمه غير شاعر حتى يستولى على ألباب سامعيه، وتلقانا فى العصر مواعظ كثيرة، من مثل موعظة أبى الفرج الساوى حين توفى السلطان فخر الدولة البويهى، فقد نفذ من موته إلى صنع موعظة طريفة استهلها بقوله (٢):

هى الدّنيا تقول بملء فيها ... حذار حذار من بطشى وفتكى

فلا يغرركم حسن ابتسامى ... فقولى مضحك والفعل مبكى

بفخر الدولة اعتبروا فإنى ... أخذت الملك منه بسيف هلك

وقد كان استطال على البرايا ... ونظّم جمعهم فى سلك ملك

فلو شمس الضّحى جاءته يوما ... لقال لها عتوّا: أفّ منك

ولو زهر النّجوم أبت رضاه ... تأبّى أن يقول: رضيت عنك

فأمسى بعد ما قرع البرايا ... أسير القبر فى ضيق وضنك

وظنّى أنه لو عاد يوما ... إلى الدّنيا تسربل ثوب نسك

ومضى يتخذ من موت هذا السلطان الباغى عبرة وعظة، فلو أنه عاد إلى الدنيا لطأطأ من كبريائه وعتوّه وظلمه بل لرفض الدنيا زاهدا فيها مؤثرا أن يعيش عيشة النّسّاك. وفى كتاب اليتيمة شاعر يسمى أبا محمد إسماعيل بن محمد الدهان، كان يشغل نفسه حقبة بمديح الأعيان والوجهاء، ثم آثر الزهد والإعراض عن الدنيا، ويورد الثعالبى أطرافا من شعره الزاهد (٣) من مثل قوله:

عبد عصى ربّه ولكن ... ليس سوى واحد يقول

إن لم يكن فعله جميلا ... فإنما ظنّه جميل


(١) انظر ترجمته فى الأنساب ٣٤٦ وطبقات المفسرين للسيوطى وتتمة اليتيمة ٢/ ١١٥ والسبكى ٤/ ٢٧١.
(٢) اليتيمة ٣/ ٣٩٣.
(٣) اليتيمة ٤/ ٤٣٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>