للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهو يصوّر فناء الإنسان السريع وخوفه من ربه ورجاءه فى لطفه، ويذكر الثعالبى أنه لما أزمع الحج وزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ظل ينشد:

أتيتك راجلا ووددت أنى ... ملكت سواد عينى أمتطيه

ومالى لا أسير على المآقى ... إلى قبر رسول الله فيه

ومن شعراء كتاب اليتيمة الذين شاركوا فى هذا الشعر الزاهد الذى يفوح بالتقوى أبو جعفر البحّاث الزّوزنى أحد القضاة بخراسان، وله موعظة طويلة يتحدث فيها عن الشباب ورحيله والمشيب ونزوله، ويقف بإزاء الزمان وما يدير على الناس من كئوس شراب هنئ وشراب بغيض مرير، ويفيض فى الحديث عن الحياة والموت وكيف أتى على الملوك والحشم والجيوش وربات الخدور والحسان، ويسخر من الأغنياء حين يموتون فإن ورثتهم يستبشرون بموتهم، وكل منهم يصبح فى شغل بميراثه، يقول (١):

سباع حواليه زرق العيون ... كلاب وأسد وذئب أزلّ (٢)

فهذا يجاذب ما قد حواه ... وهذا يخالسه ما فضل

إذا وضعوه على نعشه ... أشاعوا البكا وأسرّوا الجذل (٣)

وإن دفنوه نسوه معا ... وكلّ بميراثه مشتغل

ويبكى أبو جعفر بدموع غزار على شبابه وما صار إليه من وهن العظم واشتعال الشيب فى رأسه، ويتوب إلى ربه منيبا مستغفرا. ويلقانا هذا الشعر الزاهد على ألسنة كثير من الشعراء فى كتاب دمية القصر، وخاصة منهم القصّاص الوعاظ، وكان طبيعيا أن يفسح هؤلاء الشعراء لمديح الرسول عليه السلام، وعم هذا الشعر الزاهد بين شعراء المحدّثين والفقهاء. وللزمخشرى ديوان لا يزال محفوظا بدار الكتب المصرية وهو ملئ بالأدعية والابتهالات وطلب الشفاعة من الرسول عليه السلام. وللغزالى بدوره أشعار زهدية كثيرة وقد ينزع بها منزع المتصوفة السنيين على شاكلة قوله (٤):

سقمى فى الحبّ عافيتى ... ووجودى فى الهوى عدمى

وعذاب يرتضون به ... فى فمى أحلى من النّغم

ما لضرّ فى محبتكم ... عندنا والله من ألم


(١) اليتيمة ٤/ ٤٤٥.
(٢) ذئب أزل: ذئب يتولد بين الضبع والذئب.
(٣) الجذل: الفرح.
(٤) انظر ترجمة الغزالى فى السبكى ٦/ ٢٢٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>