وهو يعود إلى فكرة النور ويصلها بفكرة الظلمة فالوصل نور مشرق والهجر ظلام داج، وهو يشير بالمشكاة والمصباح إلى الآية الكريمة:(الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح فى زجاجة الزجاجة كأنها كوكب درّىّ يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيئ ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدى الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شئ عليم) وكأن فى قلوب الصوفية نور الله، وهو يريد بذلك الاتحاد بالذات الإلهية النورانية، وهو اتحاد يعنى السكر والنعيم بنشوة هذه الخمر الربانية التى راقت وأخذت كئوسها وأقداحها تدور على المحبين كما يقول، أقداح من شراب روحىّ مصفىّ، ويقول مصورا لهم فى حال سكرهم:
لا يطربون بغير ذكر حبيبهم ... أبدا فكلّ زمانهم أفراح
حضروا وقد غابت شواهد ذاتهم ... فتهتّكوا لمّا رأوه وصاحوا
أفناهم عنهم وقد كشفت لهم ... حجب البقا فتلاشت الأرواح
فهم سكارى فرحون بذكر حبيبهم، وهم حاضرون غائبون، وكأنما يفنون عن ذواتهم وأجسادهم بل هم فانون فعلا، لا يدركون حسّا منهم ولا ما يشبه الحس، إذ أصبحوا فى الحضرة الإلهية، وأصبحوا لا يحسّون ولا يبصرون سواها، وإنهم ليصيحون ويعلو صياحهم فرحا وابتهاجا بما صاروا إليه من الفناء والاتحاد بالله، وبما كشف عنهم من الحجب والأستار. وواضح ما يداخل هذه الأبيات من أفكار صوفية فلسفية كان ينكرها-كما قدمنا-أصحاب التصوف السنى، فهم لا يعرفون فناء ولا اتحادا، ولا يدّعون غيبة وهم حضور، كما لا يدعون رؤية الله بأبصارهم فإنه كما قال القشيرى آنفا لا يحده زمان ولا مكان ولا تبصره العيون ولا ينكشف لأحد، ليس كمثله شئ، ولا كم له ولا كيف (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) وليحيى السهروردى قصيدة فى النفس حاكى فيها قصيدة ابن سينا العينية المشهورة التى صور فيها النفس سابقة للجسد، وهى تحل فيه ودائما متشوقة إلى عالمها المثالى الأول، وفى ذلك يقول السّهروردىّ:
خلعت هياكلها بجرعاء الحمى ... وصبت لمغناها القديم تشوّقا