للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يعظهم بالعربية والفارسية (١)، ومنهم إمام الحرمين الجوينى المتوفى سنة ٤٧٨ ومن أجله بنيت المدرسة النظامية بنيسابور-كما أسلفنا-وكان يجلس للوعظ والمناظرة ورزق من التوسع فى العبارة ما لم يعهد من غيره، وكان لا يتلعثم فى كلمة (٢). ومنهم القشيرى الإمام الصوفى الكبير المتوفى بنيسابور سنة ٤٦٥ ومرّ بنا ما قيل فى وعظه من أنه «لو قرع الصخر بصوت تحذيره لذاب، ولو ربط إبليس فى مجلسه لتاب». ومنهم الغزالى الإمام المشهور وأخوه أحمد الذى قيل فيه: «كان واعظا تنفلق الصخور الصمّ عند سماع تحذيره، وترعد فرائص الحاضرين فى مجالس تذكيره (٣)». ومنهم فخر الدين الرازى المتوفى سنة ٦٠٦ وكان واعظا كبيرا وكان يعظ باللسانين العربى والعجمى وكان يلحقه الوجد فى حال الوعظ ويكثر البكاء. وحضر مجلس وعظه ذات يوم السلطان أبو المظفر الغزنوى، فصاح به وهو على المنبر، يا سلطان العالم! لا سلطانك يبقى، ولا تلبيس الرازى يبقى، وإن مردّنا إلى الله (٤).

وكانت كثرة الدول والإمارات الفارسية فى العصر عاملا مهما فى كثرة الرسائل الديوانية، فقد كان لكل دولة ولكل إمارة ديوان رسائل تصدّره كتّاب اشتهروا بحسن البيان، وليس ذلك فحسب فإنهم مضوا يتأنقون فى كتاباتهم صورا من التأنق حتى يرضوا أمراءهم، وكانت كتبهم لا تخلو من حلية السجع، فهى حلية مشتركة فى الرسائل جميعها وتضاف لها حلىّ مختلفة من الجناس والطباق والأخيلة، حتى لتغدو بعض الرسائل طائفة من الحليات والتنميقات. وكان الشبان يغدون على هذه الدواوين ابتغاء العمل فيختبرون، ومن تتضح عنده الملكة الأدبية يوظف فيها، وحينئذ يلزم كاتبا من كتابها، يعمل بين يديه، حتى يخرّجه كاتبا ماهرا. وكان بعضهم يظل فى حضرة الدولة أو عاصمتها، وبعضهم يرسل إلى الولايات للعمل بين أيدى الولاة. وكل ذلك كان يدفع شباب الكتاب إلى التنافس بينهم، تنافسا أداهم إلى التثقف الواسع بألوان الثقافات المختلفة من لغوية وغير لغوية. وكان من يظهر منهم نبوغا يرتقى سريعا وقد يصبح رئيسا للديوان، وقد يصبح وزيرا يدبر أمور الدولة كلها، وربما أصبح واليا لمدينة كبيرة. وكل ذلك دفع إلى النهوض بالكتابة الديوانية، وخاصة فى القرون الرابع والخامس والسادس للهجرة، حين كانت العربية لا تزال عالبة ولا يزال سلطانها نافذا فى الأعمال الرسمية. وبالمثل ظلت فى


(١) السبكى ٤/ ٢٧١
(٢) ابن خلكان ٣/ ١٦٨
(٣) السبكى ٦/ ١٩١
(٤) السبكى ٨/ ٨٩ وما بعدها وابن خلكان ٤/ ٢٤٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>