وإذا استعرضنا دواوينهم جميعا وجدنا النابغة يقرب فى ذوقه من أوس بن حجر وزهير ومدرستهما التى اشتهرت عند القدماء بالتجويد والتنقيح، فهو لا يقبل كل ما يفد على خاطره، بل لا يزال يثقفه ويصقل فيه حتى يستوى له اللفظ المونق والديباجة الجزلة. وقد أتيح له أن يعيش فى بيئتين متحضرتين هما الحيرة وبلاط الغساسنة، فرقّ ذوقه وسهل منطقه ولفظه، وإن كان لم ينس البادية ولغتها وغرابة هذه اللغة.
وقد وقف القدماء طويلا عند إجادته لفنى المديح والاعتذار، غير أنهم عادوا فقالوا إنه أحد الأشراف الذين غضّ الشعر منهم، فإنه مدح الملوك وقبل صلتهم ونوالهم، وكان فى غنى عن هذا القبول. «قيل لأبى عمرو بن العلاء: أفمن مخافة النعمان بن المنذر امتدحه النابغة وأتاه بعد هربه منه أم لغير ذلك؟ فقال: لا، لعمر الله ما لمخافته فعل، إن كان لآمنا من أن يوجّه النعمان له جيشا، وما كانت عشيرته لتسلمه لأول وهلة، ولكنه رغب فى عطاياه وعصافيره (إبله) وكان النابغة يأكل ويشرب فى آنية الفضة والذهب من عطايا النعمان وأبيه وجده، لا يستعمل غير ذلك (١)».
ويبعد فى رأينا أن يكون قد وفد على أبى النعمان وجده كما يقول أبو عمرو بن العلاء وغيره من الرواة فإن ديوانه برواية الأصمعى يخلو من مديحهما. أما أن تكسبه بالشعر وأخذه نوال المناذرة وكذلك الغساسنة قد غضّ منه وأنزله من مرتبة شرفه فغير صحيح، لأن وفوده عليهما لم يكن القصد منه التكسب، وإنما كان القصد رعاية مصالح قبيلته عندهما كما قدمنا، فقد كان سفيرها فى بلاطهما. وحقّا إنه يبالغ فى مديحه واعتذاره، ولكنها مبالغة لا تنتهى إلى ذلة نفس، بل هى المبالغة التى تأتى من أنه يتحدث إلى أمراء كان لهم سلطان كبير على القبائل العربية، ويريد أن يصلح ما فسد من قلوبهم عليه وعلى قبيلته.
وليس شعره جميعه مديحا واعتذارا فقد رثى النعمان الغسانى، وهو يقدم لرثائه ومديحه واعتذاراته بالنسيب ووصف ناقته، وقد يخرج من ذلك إلى وصف الحيوان فى الصحراء وصيده. وأيضا ففى شعره قصائد ومقطوعات تتصل بأحداث قبيلته