ومنذ فتك مؤيد الدولة بأبى الفتح على بن أبى الفضل بن العميد سنة ٣٦٦ ولاه وزارته وظل وزيرا له حتى إذا توفى سنة ٣٧٣ وخلفه أخوه فخر الدولة أقرّهّ على وزارته، وكان مبجلا عندهما ومعظما نافذ الأمر. وكان حسن السياسة مدبرا للملك كما كان قائدا شجاعا مما رفع منزلته عندهما إلى أقصى حد، حتى قيل: كان «من يؤذن له فى الدخول عليه يظن أنه قد بلغ الآمال، ونال الفوز بالدنيا والآخرة، فرحا ومسرة، وشرفا وتعظيما، فإذا حصل فى الدار وأذن له فى الدخول إلى مجلسه قبّل الأرض عند وقوع بصره عليه. .
ولم يكن يقوم لأحد من الناس، ولا يشير إلى القيام، ولا يطمع أحد منه فى ذلك».
وما زال وزيرا لفخر الدولة حتى توفى سنة ٣٨٥ ويقال أنه لما توفى أغلقت له مدينة الرىّ، واجتمع الناس على باب قصره ينتظرون خروج جنازته، وحضر فخر الدولة وسائر القواد وقد غيّروا لباسهم. ومشى فخر الدولة أمام الجنازة مع الناس، وقعد للعزاء أياما. وفيه يقول الثعالبى:«ليست تحضرنى عبارة أرضاها للإفصاح عن علو محله فى العلم والأدب وجلالة شأنه فى الجود والكرم، وتفّرده بغايات المحاسن، وجمعه أشتات المفاخر، لأن همة قولى تنخفض عن بلوغ أدنى فضائله ومعاليه؛ وجهد وصفى يقصر عن أيسر فواضله ومساعيه ولكنى أقول: هو صدر المشرق، وتاريخ المجد، وغرة الزمان، وينبوع العدل والإحسان. . وكانت أيامه للعلوية والعلماء. والأدباء والشعراء، وحضرته محطّ رحالهم، وموسم فضلائهم، ومترع آمالهم، وأمواله مصروقة إليهم، وصنائعه مقصورة عليهم، وهمته فى مجد يشيده، وإنعام يجدده، وفاضل يصطنعه، وكلام حسن يصنعه أو يسمعه. . وكانت حضرته مشرعا لروائع الكلام، وبدائع الأفهام، وثمار الخواطر، ومجلسه مجمعا لصوب العقول وذوب العلوم ودرر القرائح. . واحتفّ به من نجوم الأرض وأفراد العصر، وأبناء الفضل، وفرسان الشعر، من يربى عددهم على شعراء الرشيد؛ ولا يقصّرون عنهم فى الأخذ برقاب القوافى، وملك رقّ المعانى». ويذكر ياقوت أن عطاياه للأدباء والشعراء والعلماء والأشراف كانت تزيد على مائة ألف دينار فى العام الواحد. وكان يقول: مدحت بمائة ألف قصيدة عربية وفارسية، وفى هذا ما يدل على أنه كان يعرف الفارسية، بل ربما كان يتقنها إذ روى أنه اختبر قدرة بديع الزمان الهمذانى، حين مرّ ببابه، فى الترجمة من الفارسية إلى العربية.
وكان شاعرا مجيدا، كما كان كاتبا مجيدا، وقد أنشد الثعالبى طائفة كبيرة من أشعاره أخلاها من شعره العقيدى الشيعى والمعتزلى، فقد كان شيعيا إماميا كما مر بنا فى حديثنا عن شعراء المديح وكان يدين بمذهب المعتزلة ومبادئهم المعروفة، وقد نشر محمد حسن آل ياسين