للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فكان طبيعيّا أن يختلف ذوقه عن ذوق البدو وأن يأتى بمثل هذه المعانى التى تروق ممدوحيه من الأمراء.

وإذا كان النابغة يتفوق فى المديح تفوقا ظاهرا فإنه كذلك يتفوق فى الاعتذار، وكأن ذوقه الحضرى هو الذى أعدّه لهذا التفوق، إذ نحس فيه رقة فى اللهجة وإلحاحا فى التلطف محاولا أن يزيل من نفس النعمان بن المنذر ظنه السيئ فيه. وقد استعان بموهبته فى اختراع الصور والمعانى والتدقيق فيها، مدبجا فى ذلك قصائد طوالا تعدّ من أروع ما خلّفه العصر الجاهلى لا لطولها فحسب، بل لما فيها من صدق اللهجة وسهولة اللفظ وحسن ديباجته. وقد أسعفه فى ذلك ذوقه الحضرى الذى خلصه من خشونة البدو ومن الأنفة الجامحة، فإذا ذنبه يكبر فى نفسه، وإذا هو يحس كأنه أتى جريرة لا تغتفر، فماينى يقدّم للنعمان المعاذير متخذا إليه كل ما يستطيع من البراهين ومن سبل التلطف والملاينة وقد يؤديه ذلك إلى غير قليل من التذلل والاسترحام، حفاظا على صداقته القديمة له واستبقاء لوده، وهو حسن تأتّ لا صغار نفس ولا مهانة، ولا طلبا لعصافير النعمان كما قال أبو عمرو بن العلاء، وإنما هو الذوق الحضارى الذى اكتسبه النابغة والذى جعله يختلف عن معاصريه ويقترب من ذوق العباسيين المتحضرين، حين يشعرون بضخم ذنبهم لدى الممدوحين ويأخذون فى التنصل منه، وتقديم شتى المعاذير. وهو يخلط اعتذاره بمديح النعمان والثناء عليه، وارجع إلى المعلقة فتراه يستهلها بوصف أطلال دار مية، ثم وصف ناقته التى قطع بها الصحراء إلى مقصده مفتنّا فى تصويرها، ومشبها لها بثور تناضله كلاب الصيد، حتى إذا انتهت به إلى النعمان أخذ يمدحه بكرمه الفياض وما وهبه من قطعان الإبل والخيل ومن الجوارى المنعّمات، ثم مضى يستعطفه قائلا:

فلا لعمر الذى مسّحت كعبته ... وما هريق على الأنصاب من حسد (١)

والمؤمن العائذات الطير تمسحها ... ركبان مكّة بين الغيل والسّعد (٢)


(١) مسحت: لمست ألتمس البركة. هريق: سال. الجسد: الدم. الأنصاب: الحجارة التى كانوا يذبحون عليها قرابينهم للآلهة.
(٢) المؤمن: الذى آمنها من الخوف. العائذات: اللاجئات إلى الحرم. تمسحها الركبان: يريد أنها تمسح عليها ولا تهيجها بصيد. الغيل والسعد: أجمتان بين مكة ومنى.

<<  <  ج: ص:  >  >>